يزخر الجنس البشري بالعيد من الأيديولوجيات السياسية والعرقيات التاريخية التي لم توفي حقها الدراسة والبحث، وظلت تتضارب الآراء حول ماهيتها جغرافيًا وتاريخيًا حتى الآن، وذلك رغم تأثيرها لحقبة زمنية طويلة على بعض الأمم، ويرجع هذا الاختلاف إلى نقص المصادر التاريخية المعتمدة أو عدم اهتمام المؤرخين بتدوين تلك الأحداث بصفة خاصة، وحيث أن الجنس البشري بأكمله يبحث دائمًا عن الحقائق من خلال دراسة أجناس الشعوب وتاريخها ومواقعها الجغرافية وتأثيرها، إلا أنه في أقصى المنطقة الشرقية من العالم وما خلف النهر الأصفر تبدو دراسة الأجناس البشرية هناك نوع من المغامرة؛ حيث تتداخل الحضارات والثقافات وتتعدد الأديان والمذاهب وتتشابك حدود الدول وتتغير الخرائط الجغرافية، ويبدو من الصعب التدرج في الأحداث والمعطيات، وهذا بالفعل ما يجده الباحث عند دراسة تاريخ شعوب التتار، حيث ارتبط اسم التّتار في الثقافة العربية ببعض القبائل المغولية التي غزت العالم بأكمله ورسخ في عقلية القارئ العربي أن التتّار قبائل همجية غزت الدولة الإسلامية في وقت سابق من تاريخها واختلفت حتى المراجع الأجنبية في تحديد أصول التتار، ولم يبقَ في عقلية القارئ والمتلقي العربي سوى هذا المشهد التاريخي من فيلم وإسلاماه! الذي قطع فيه المظفر قطز رؤوس رسل التتار.
معنى كلمة تتّار!
اختلفت الآراء حول أصل كلمة التتار (بالإنجليزية: Tatars) ومعناها واتفقت على أنها أطلقت على أحد أكبر العرقيات التاريخية ذات الطابع الخاص بها وانتهى بها الأمر إلى تداخلها وتقاسمها بين عدة ثقافات مختلفة، ليختفي وصفهم بهذا الاسم من صفحات أسلافهم، وتبقى كلمة التتار بوصفها عدة شعوب سكنت في آسيا الوسطى وحتى أوروبا الشرقية مجرد تاريخ يدرس على صفحات الكتب، وحول معنى كلمة تتار اختلف الكثير من المؤرخين واللغويين، ورغم ذلك فإن أغلب التراجم التي وردتنا بأكثر من لغة تشير إلى المعنى الاصطلاحي الذي اتفق عليه المؤرخون في وصف شعوب التتار، ومن بعض هذه المعاني والمصطلحات:
- تعود جذور كلمة تتار إلى اللغة الفارسية وتنقسم إلى شقين كلمة تات بمعنى الجبل وكلمة أر بمعنى الساكن أي ساكنو الجبال
- قيل إن أصولها تعود إلى اللغة التركية، حيث إن كلمة آر تعنى في اللغة التركية الإنسان، وتم مزجها مع أسماء الكثير من الشعوب مثل البلغار والتتار وسوفار وميشار وغيرها
- تعني لدى الصينيين البدو والبداوة والقوة والفروسية
- في اللغة التركية القديمة كلمة تتراي يُقصد بها الفارس، ومن معانيها عندهم الأنفة والرفعة والإباء
يتضح مما ذكرناه أن اسم الشعب هو رمز له حيث يحتوي على العوامل الأيديولوجية التي ترتبط معناها بالفروسية والشجاعة، وهو ما يتطابق ونمط الحياة التي عاشها هؤلاء في الفترات الأولى من ظهورهم على مسرح الأحداث العالمية، ويبدو أن خلط الشعبين التتاري والمغولي أفقد التتار جزءًا كبيرًا من أيدلوجيتهم الثقافية والاجتماعية عبر العصور.
من هم التتار؟
في رحلاته إلى المشرق الأوربي سنة 922 من الميلاد، كشف الرحالة العربي ابن فضلان عن مجموعات قبلية صغيرة كونت دولة سميت قبائل البلوجار أو البلغار، سكنت قبالة سواحل نهر آيديل والفولجا وهو أطول أنهار أوروبا وأغزرها حيث يقع في الجزء الغربي الأوروبي من روسيا، والبولجار هم أجداد التتار وأسلافهم هم البلغار في دولة بلغاريا العظمى التي ذاع صيتها داخل أوروبا، وهذا على رأى أغلب الكثير من المؤرخين.
فيما كشفت المصادر التاريخية أن شعب البلوجار هم من الأصول التركية التي امتزجت مع عدة عرقيات بما فيهم الصينيين والمغول الذين سكنوا بالقرب من أواسط آسيا، حتى كونوا أكبر إمبراطورية في ذلك الوقت، وفي آخر إحصائية يشكل أسلاف التتار الآن نحو خمسة ملايين نسمة تقطن شرق أوروبا وشمال آسيا، وهم السكان الأصليون في منطقة الفولجا في روسيا المعروفة باسم تتارستان وباشكورتوستان.
أين يعيش التتار في العصر الحديث؟
رغم أن دولة التتار نظريًا تمثل دولة بلغاريا الحالية، تؤكد كثير من الدراسات والأبحاث أن أسلاف التتار ينتشرون بين عدة دول في روسيا وأوروبا الشرقية، ولا يمثلون دولة بعينها، حيث يعيش أغلب التتار في روسيا الاتحادية، بتعداد 5.5 مليون نسمة يدين أغلبهم بالإسلام، ويسكن مليون نسمة في جمهورية بشكورتوستان و2.5 مليون في مناطق متفرقة من روسيا، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي، عاش التتار في دول مستقلة حديثًا، مثل أوزبكستان وكازاخستان وأوكرانيا وبلغاريا.
ويُعدّ التتار أكبر مجموعة متنوعة للغاية عرقيًا وجغرافيًا، ويشكلون ثاني أكبر مجموعة غير سلافية (بعد الأوزبك الأتراك)، أما أكبر دولة يعيش فيها أسلاف التتار الآن هي دولة تتارستان ويسكن بها أكثر من 26 % من التتار، ويبلغ عدد سكانها حوالي 4 ملايين نسمة، وتبلغ مساحتها مساحة كل من أيرلندا أو البرتغال، وتمتزج بعدد كثير من الثقافات والأديان منها الإسلامية والمسيحية الأرثوذكسية، وقازان هي عاصمة تتارستان، وهي مدينة يزيد عدد سكانها عن مليون نسمة وأكبر ميناء على نهر الفولجا.
الأصول التاريخية للتتار
تكمن دراسة تاريخ التتار من الصعوبة في تحديد ملامح الخريطة التاريخية كاملة منذ نشأتها، وما تزال هناك الكثير من الدراسات والخلافات حول الأصول التاريخية لهم، ولكن عند دراسة أنماط الشعوب الحديثة فإن ثمة تشابه كبير في ثقافة بعض بلدان أوروبا الشرقية، بما فيها الدول التي تتبع الاتحاد السوفيتي، وشعوب التتار القديمة وثقافتهم التي كانت تقوم بالأساس على تعلم الفروسية والعيش في الصحراء والبداوة وتحمل الظروف الجوية القاسية في تلك المناطق الباردة، وتتشابه أيضًا الأوصاف الجسدية والتي ورثتها شعوب التتار الحديثة مثل القوة الجسدية واللحى الصفراء الطويلة وبياض الوجه.
ووجد أغلب المؤرخين ذلك التشابه الكبير بين الأجداد وأسلافهم من التتار في نفس المناطق التي سكنوا بها، ومع الاعتراف بالكثير من الخلط بينهم وبين المغول، كان المغول أقرب شبهًا إلى الصينيين، وربما ظهر هذا النسيج لاحقًا في الأجيال التالية لهم، ومن خلال أبحاث العلماء والمؤرخين ودراساتهم يمكن لنا أن نصل إلى بعض المعلومات عن الأصول التاريخية للتتار وهي أن:
- التتار شعوب صغيرة ومتنوعة تمثل أقليات متشابكة ما بين قارتي أوروبا وآسيا.
- التتار مجموعات عرقية ناطقة بالتركية انتشرت حول نهر الفولجا.
- ظل العرق التركي الناطق باللغة التركية هو الغالب على شعوب التتار.
- شكل التتار ثاني أكبر مجموعة غير سلافية (بعد الأوزبك) في الاتحاد السوفيتي السابق.
- سكنت مجموعات أخرى مناطق من جبال القوقاز والأورال إلى شرق سيبيريا، وكانوا قبائل تتارية عديدة مثل تشوفاش، بشكير، سخا، توفان، كاراساي، خاكاس.
- مع ضعف سيطرة المغول على منطقة نهر الفولغا خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن الرابع عشر، ظهرت عدة دويلات خلال القرن الخامس عشر وأوائل القرن السادس عشر لتكون نواة شعوب التتار الحديثة.
- ذكرت بعض كتب المغول أن المغول هم من سكنوا تلك المناطق بينما، مثل التتار، كانت عدة قبائل معادية تقطن شرق منغوليا.
- قام جنكيز خان بإبادتهم بالكامل تقريبًا ولم يبقى منهم سوى السبايا وخمسمائة رجل.
- بعد اضمحلال دولة المغول، عاشت شعوب التتار والمغول بعد المزج بينهما اجتماعيًا، وأصبح شعبها يعرف باسم التتار.
- اعتنق أسلاف التتار الإسلام واستبدلت الأبجدية العربية بالحروف التركية القديمة.
- قامت القوات الإمبراطورية الروسية في عهد القيصر إيفان الرابع في عام 1552 بغزو التتار ليصبحوا أول رعايا مسلمين للإمبراطورية الروسية.
ما الفرق بين التتار والمغول؟
هل ارتكب المؤرخون العرب خطئًا تاريخيًا حين وصفوا الحملات المغولية على الدولة الإسلامية بالحملات التتارية؟ الحقيقة أنه ليس هناك خطئًا تاريخيًا، إذ أن الكثير من المصادر الأجنبية والباحثين يشددون على أن التتار والمغول هما دولة واحدة، وموطنهما الأصلي واحد، والتمايز العرقي النسبي بينهما ظهر وتبلور لاحقاً، بعد أن غادروا موطنهم الأم وامتزجوا بأعراق أخرى أوروبية وبالتالي فإن التتار جزء لا يتجزأ من دولة المغول التي غزت العالم بأسره والدولة الخوارزمية بفارس ثم العراق ما بين 1926 و1956.
بينما يرى قليل من العلماء أنهما أمتان مختلفتان، ولكل منهما أرضه وعاداته وتقاليده، ويرى هؤلاء أن طغيان تسمية التتار على المغول سببه الدور الدور الحربي البارز والقيادي الذي قامت به قبائل التتر المشاركة في غزوات جنكيز خان (1167-1227م)، الذي حقق انتصارات متتالية مما أدى إلى ظهور التتار في الساحة الدولية وعيشهم ضمن القبائل المغولية، ويرجح كذلك الوقائع التاريخية بغزو المغول للتتار بالكامل ولم ينجوا منهم سوى السبايا وصغار السن.
وبدأت الحملات المغولية على التتار مبكرًا سنة 1140 ميلادي بقيادة الزعيم كابول والذي استطاع أن يوحد القبائل المغولية تحت سيطرته، فيما كانت تسكن القبائل التتارية الحدود الشرقية لتلك المملكة الجديدة مما تسبب في الكثير من الحروب في ذلك الوقت أدت إلى إبادة التتار، وضم ما تبقى منهم تحت سيطرة المغول، في الوقت الذي حاول المغول السيطرة على القبائل التتارية التي كانت متحالفة مع الامبراطور الصيني، الذي قام بإعدام امبغاى ابن كابول، ثم ما لبث المغول أن لملموا شتاتهم مرة ثانية على يد موتولا، وهو عم جنكيز خان القائد المغولي الأشهر في التاريخ.
شغلت الحقبة الزمنية الأولى في تاريخ الجنس البشري الكثير من أبحاث المؤرخين حول العالم، ورغم أن جميع الأمم دونت أحداث تاريخها بأيديها وكتبت ملامح حضارتها فوق صفحة تاريخ البشرية بسواعد أهلها، دُون لنا أن أمة التتار على خصام مع الحضارة الإنسانية، ربما كانت بفعل فاعل أو ربما سقطت سهوًا من ذاكرة التاريخ البشري، الأمر الذي جعل المؤرخين إلى الآن يبحثون عن دليل مادي لدراسة الجنس التتاري ودأب الخلاف بين المدارس التاريخية إلى الآن، ولم يصل لنا من هذا التاريخ إلا ما جعل من بعض أسلافهم من التتار الجدد يخجلون من تاريخ أجدادهم.