بالرغم من التطور التكنولوجي الهائل الذي وصل له العالم في القرن الحادي والعشرين، لم تؤثر تلك التكنولوجيا في حياة بعض الشعوب، ونقدم لكم في هذا الموضوع أحد تلك الشعوب المتواجدة في جنوب شرق آسيا، وهم " شعب الباجاو" الذين يعيشون في البحر تقريبًا طوال حياتهم ولا يتحملون العيش على اليابسة.
من هم شعب الباجاو؟
على الرغم من أنهم ثاني أكبر تجمع من السكان الأصليين في ولاية صباح الماليزية، لا يزال الأصل الدقيق للباجاو غير معروف، فربما جاءوا من جوهور، في شبه جزيرة ماليزيا، قبل وقت طويل من أن تصبح جزيرة بورنيو جزءً من البلاد، وقد يكون الهدف الذي جعلهم يهاجرون من جوهور هو سعيهم وراء التجارة، لا سيما في أنواع خيار البحر الذي يُسمى تريبانج، وهو طعامًا شهيًا يستخدم في الحساء المصنوع في دول آسيوية مثل الصين، ويتم استخدامه أيضًا في بعض الأمور الطبية، ويمكن لغواصي الباجاو النزول بعمق يصل إلى 30 مترًا بحثًا عنه.
والباجاو من البدو الرحل الذين يعملون في البحار طوال تاريخهم، ولا يزال العديد من شعب الباجاو يمارسون أسلوب الحياة نفسه حتى يومنا هذا، وهو ما يفسر سبب استمرار تسميتهم غجر البحر، ويعيشون حاليًا في مياه بحر سولو، قبالة الساحل الجنوبي الغربي للفلبين وماليزيا والبحار المختلفة التي تحيط بجزيرة سولاويزي الإندونيسية، وتُعد من بين أخطر البحار في العالم.
وتم اكتشاف قبيلة الباجاو وكشف أسرارها من خلال " أنطونيو بيجافيتا" الرحالة البريطاني عام 1521م.
أسلوب حياة الباجاو
يعيش الباجاو في قوارب ومنازل عائمة مصنوعة من الخوص وسيقان الأشجار فوق البحر، وحياتهم مُقسمة في نوبات عمل على القوارب للصيد ( وهو العمل الأكثر شيوعًا في ثقافتهم)، وحياتهم البسيطة والخطيرة أيضًا يقودها المحيط وتغير المد والجزر فيه، فهم لا يعرفون اليابسة إلا عند دفن ذويهم فقط، وعلى الرغم من أن أطفال الباجاو لا يذهبون إلى المدرسة أبدًا، يتعلمون معظم معارفهم من خلال أسلافهم كما هو الحال في معظم القبائل المعزولة في العالم.
ويكسب العدد الأكبر من شعب الباجاو رزقهم من صيد الأسماك وبيعها، ومنهم عدد قليل جدًا تخلّوا عن هذا النمط من الحياة وأصبحوا مزارعين ومربيين للماشية، مما أكسبهم لقب رعاة البقر في الشرق، وفي الواقع، فإن مهاراتهم في تربية الخيول أيضًا مُميزة ومشهورة بشكل كبير في هذا الجزء من العالم، ويمكن معرفة ذلك من الأحداث والفعاليات الاحتفالية في باجاو، وعُرف عن أفراد الباجاو قديمًا أنهم يقومون بأعمال القرصنة وحيازة الأسلحة ولكنهم ينفون ذلك.
ولا يزال الباجاو التقليديون يعيشون نمط حياة بين البدو الرُحل والمستقرين، ويعيشون في قرى على الماء، ولكن ليس بعيدًا عن اليابسة.
ديانة الباجاو
يعتنق مُعظم شعب الباجاو حاليًا الإسلام، ويعتقدون أيضًا أن من بين أفراد قبيلتهم نسل مباشر للنبي محمد، ومع ذلك، فإن الكثيرين منهم -في الغالب من البدو الرحل من الباجاو- يحتفظون بالممارسات الدينية القديمة القائمة على الروح والتي سبقت أي دين رئيسي.
وتتواصل الوسائط الروحية الخاصة في دينهم مع عالم الأرواح في طقوس احتفالية يتم إقامتها للعبادة وطرد الأرواح الشريرة كما يزعمون، فعلى سبيل المثال، تُبحر قوارب الروح، كما يطلقون عليها، في البحار المفتوحة لإبعاد الروح الشريرة عن مجتمعهم ليحل عليهم السلام والأمان، ويعبدون أيضًا إله البحر والذي يسمى"أمبوه ديلوت".
طرق الاحتفال
من الكبار إلى الصغار، شعب الباجاو هو شعب مُتيم بحب الألوان والاحتفالات والموسيقى -كالشعب الهندي- ويعتقدون أنهم ينحدرون من العائلة المالكة، وربما يكون هذا مُبرر لارتدائهم الملابس الغنية بالألوان المبهجة، والتي غالبًا ما تكون مصنوعة يدويًا من قماش "داستر" التقليدي.
ويرتدي العرسان ملابس ملونة بألوان كثيرة في حفلات زفافهم، فكلما كانت المرأة تحظى بتقدير كبير وأكثر جمالًا، كانت ملابسها أكثر إشراقًا وملونة بشكل أوضح، وتتلقى العروس أيضًا في حفل زواجها العديد من "جاموس الماء" الذي يُعد بالنسبة إلى الباجاو حيوانًا خاصًا ويشكل عادةً جزءً من مهر أي امرأة، وهو تقليد لا يمكن تغييره أو المساس به، ويشتهر شعب الباجاو بزواج الاختطاف والهروب، وما يزال هذا الأمر متكررًا جدًا هناك.
ومن أبرز الاحتفالات أيضًا تلك التي تتم على الساحل الجنوبي الشرقي من ولاية صباح، وفيها تُعد قوارب "ليبا-ليبا" سمة من سمات مهرجان "سيمبورنا" السنوي، حيث يتم تزيين القوارب بألوان زاهية وتتسابق مع بعضها البعض في الاحتفال بثقافة باجاو.
الفولكلور وأصل التسمية
جزء كبير من تاريخ الباجاو وتقاليدهم مدون في الفولكلور، وتحكي إحدى القصص القديمة عن رجل كبير وقوي جدًا يُدعى "باجاو" اعتاد شعبه متابعته في الأنهار لأنه كلما ذهب إلى هناك كان النهر يفيض بسبب كتلة جسمه الكبيرة، بحيث كان بإمكانهم جمع الأسماك الميتة بسهولة، وسرعان ما علمت القبائل الأخرى في المنطقة بسمعته وحسدوه على هذه الميزة التي منحها لشعبه، ليتآمروا على قتله، لكن جهودهم باءت بالفشل ونجا من السهام المسمومة التي أطلقوها عليه، ومنذ ذلك الحين ويطلق عليهم قبيلة باجاو.
وتم دفن "باجاو" القوي في ضريح بجانب حجر هو من حمله إلى مكان دفنه، حجر لا يستطيع أي شخص آخر رفعه، ولا يزال بعض من شعب الباجاو وغيرهم من السكان الأصليين المحليين يخشون حجره وسمعته التي تُحكى في الأساطير حتى يومنا هذا.
ويتم تناقل مثل هذه القصص الفولكلورية عبر أجيال لا حصر لها، ومع ذلك، ومهما تعرضت القصة الأصلية إلى التشويه أو التضخيم بمرور الوقت، فإنها وبلا شك تعكس موضوعًا مشتركًا في العديد من فولكولورات القبائل والأقليات حول العالم، وهي أن قصتهم تروي أنهم الشعب المهيمن أو المتفوق في المنطقة.
فقدان الهوية
فقد شعب الباجاو، مثل أي مجموعة متميزة أخرى، بعضًا من تراثهم الثري، حيث لم تتم إعادة سرد بعض من قصصهم وتناقلها بين الأجيال وبعضها، وبدأ الباجاو أيضًا يفقدون شيئًا من هويتهم عندما اندمجوا مع مجتمعاتهم التي تتخذ من اليابسة مسكنًا لها، وحتى أفراد الباجاو الأكثر تقليدية الذين يمارسون الملاحة البحرية، يفقدون مهاراتهم الخاصة ببناء القوارب، حيث استبدلوا قواربهم المصنوعة يدويًا من نوع "ليبا ليبا" بأخرى مصنوعة في مصانع تجارية ومنتجة بكميات كبيرة.