يُعدّ مفهوم الحضارة أكثر المفاهيم الأساسية التي ارتبطت بالإنسان، حيث أنها موروثًا كونيًا انتقل من جيل إلى جيل ومن مجتمع إلى مجتمع وشمل مظاهر التقدم في شتى نواحي الحياة، والحضارة ترجمة فطرية لسعي الجنس البشري نحو التقدم والازدهار والبحث عن وسائل العيش الآمنة والقوية، فالإنسان مجلوب بطبعه على عمارة الأرض والبناء والتعلم والتدبر، فمنذ أن خُلق الإنسان بحث في بادئ الأمر عن الأرض الآمنة البعيدة عن الهمجية والوحشية، ثم بدأ يبحث عن غذائه؛ فاكتشف مصادر المياه العذبة والأراضي الخصبة، وأخيرًا كان عليه أن يجد المسكن الملائم، فبنى البنيان وأطاله.

إن الطبيعة البشرية مجلوبة على التحضر ولم يخلقها الله إلا لتكون طبيعة حضارية، بل أمر الله الإنسان أن يسعى في الأرض ويمشي في مناكبها ويأكل منها ويتفكر في طبيعتها، ورغم ذلك فإن كلمة الحضارة بمعناها الاصطلاحي لم تظهر فعليًا سوى في القرن السابع الميلادي وتغير مفهومها عدة مرات خلال تاريخها وظل يُعرف بأنه وصف المجتمعات البشرية "ذات المستوى العالي من التطور الثقافي والتكنولوجي"، على عكس ما يراه الكثير مجتمعات أقل تقدمًا، ويُعدّ هذا المفهوم من الناحية النظرية صحيحًا، ولكنه يحمل بين طياته الكثير من الذاتية والانغلاق على مجتمعات بعينها، ويرى الكثير من علماء الاجتماع أن مفهوم الحضارة أشمل وأعمق من كونه مرتبطًا ببعض المجتمعات، حيث يقول الصادق النيهوم الكاتب والأديب الليبي"إنّ الحضارة لا يمثلها الغرب أو الشرق، بل يمثلها الإنسان القادر على تذوق الجمال أينما يراه".

ما هي الحضارة؟

في عصور ما قبل التاريخ، قضى الإنسان القسم الأكبر من حياته في أطوار التوحش والهمجية، وقدر العلماء تلك العصور بنحو مليوني عام، ثم انتقلت البشرية إلى طور الحضارة الناضجة، وربما تحقق ذلك لأول مرة في تاريخ الإنسان بانتقاله إلى وادي الرافدين ووادي النيل في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد إلى حياة التحضر المدنية، وارتبطت كلمة حضارة بالمصطلح اللاتيني Civitas، وتعني " المدينة '' وهي الترجمة الشائعة للفظة الإنجليزية "Civilisation" وحتى القرن الثامن عشر بدأ يظهر هذا المصطلح، وأول من استخدمه دي ميرابو في كتابه "مقال في الحضارة" ووصف معناه بأنه "طباع الشعوب وعمرانها ومعارفها"، ومن ثٓم وصف الأمم السابقة التي ظهرت بها تلك الصفات على أنها أمم ذات حضارة، لذلك أصبحت تلك الكلمة من أقدم الكلمات التي عرفها الإنسان منذ القدم وطبق معناها الافتراضي حتى قبل أن تصل لنا في عصور متقدمة، وعند دخول الاستعمار الأوروبي إلى الدول العربية، انتقل لفظ "Civilisation" إلى القاموس العربي، وحدث اضطراب واضح في المفاهيم لعدم وضوح تعريفات محددة لكلمات مثل "ثقافة" و"حضارة"، ورغم اختلاف التعريف الاصطلاحي لكلمة الحضارة وتطوره من ثقافة لأخرى، فإن أغلب ما عناه غالبية من استخدموا الكلمة لأول مرة هو: مزيج من الصفات الروحية والخلقية التي ساهمت في تحول المجتمعات من البداوة إلى المجتمعات الحضرية.

تطور مصطلح الحضارة

إن أرباب الحضارات القديمة لم يكن لديهم معرفة مسبقة بأن التاريخ سوف يخلد أعمالهم التي قاموا بها، ولم يكن يوسف الصديق-عليه السلام- وحمورابي ورمسيس الثاني والإسكندر الأكبر يعلمون أن مواعظهم وأعمالهم سوف تعرض وتخلد في متاحف يزورها الناس حتى الآن، لقد سطر هؤلاء وغيرهم من قادة الحضارات تاريخًا عريقًا بأيديهم في معركة تحرير العالم من الجهل والهمجية، حتى وصف أسلافهم تلك الأعمال بخلود الحضارات على اختلاف سماتها وأطلقوا على المجتمعات التي تأثرت بأفكارهم مجتمع حضاري، ومن خلال تلك النقاط نوضح كيف تطور مصطلح الحضارة منذ نشأته وحتى الآن:

  •  استخدم الإنسان القديم لفظ الحضارة من حيث معناه التطبيقي لا الاصطلاحي وقامت الكثير من المجتمعات الحضارية القديمة التي طبقت أسس المفهوم الحديث.
  • كان يُعتقد بين أغلب العلماء أن المجتمعات مرت بالعديد من المراحل المختلفة، بدأت بطور الوحشية والهمجية وانتهت بالحضارة، في أكبر اختبار للإنسان في التاريخ البشري، مما جعل البعض يرى أن الحضارة هي المحطة الأخيرة في حياة المجتمعات البشرية.
  • يرى ابن خلدون أن الحضارة صورة من رفاهية العيش والاستهلاك أحدثت طورًا من الاختلالات في تطبيق منظومة القيم الإسلامية والضوابط التي تحدد حدود الإنسان ومنهج تفاعله في الكون، وبالتالي تنافى مفهوم استخلاف الإنسان في الأرض مع مفهوم الحضارة الإنسانية لتكون مهددة بالانهيار.
  • فى القرن التاسع عشر انهارت أغلب الحضارات القديمة بنهاية الدولة العثمانية، ولم تبقى إمبراطورية ذات حضارة إلاّ وانهارت ذاتيًا، لتبقى المجتمعات البشرية الصغيرة الممثلة في بعض المجتمعات (الدول) والشعوب أسلاف الحضارات القديمة وغيرها، التي لا يمكن أن يطلق عليها لفظ الحضارة إلا من حيث المفهوم الحديث.
  • في خلال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين الميلادي، كان يعتقد على نطاق واسع بين العلماء الأوروبيين أن جميع المجتمعات البشرية من الممكن أن تشارك في عملية التقدم والازدهار الحضاري عن طريق إعادة السمات والخصائص التي ميزت الحضارات القديمة، لاسيمّا التقدم التكنولوجي والوعي الثقافي والازدهار الاقتصادي الذي أصبح يميز مجتمعات بعينها.
  •  يشير المفهوم الحديث بأنّها مجتمع بشري معقد يتميّز بعدّة خصائص، منها التطور الثقافي والصناعي والحكومي والتكنولوجي، وفي أجزاء كثيرة من العالم تشكّلت الحضارات قديمًا عندما بدأ الناس في التجمّع ضمن مستوطنات حضريّة، ومع ذلك فإنّ تحديد ماهية الحضارة والمجتمعات التي تندرج تحت هذا التعيين يُعدّ جدالًا مثيرًا للاهتمام بين علماء علم الإنسان.

سمات الحضارة

 في حياتنا اليومية أصبح استخدام كلمة "حضارة" للإشارة إلى نوع من المجتمع يظهر مجموعة من القيم الأخلاقية، مثل احترام حقوق الإنسان أو الموقف الرحيم تجاه المرضى وكبار السن، ونستطيع أن نطلق على هذا الشخص أنه شخص متحضر، حيث تأتي السمات الأخلاقية في مقدمة الأسس والمعايير التي تقوم بها الحضارات أحادية الجانب التي تتمحور حول العرق لا الدين، لذلك لا توجد حضارة دينية بالمفهوم الحديث، وقد حدد العالم جوردون تشايلد قائمة من عشر سمات تميز الحضارة، وخاصة الحضارة الحديثة، عن أي نوع آخر من المجتمعات وهي:

  • المستوطنات الحضرية والمباني الضخمة
  • حكومة مركزية ومنظمات حكومية
  • تنوع الأنشطة الاقتصادية
  • فائض الإنتاج
  • تقدم تكنولوجي
  • عمل فني ضخم موحد (الأوبرا & صناعة السينما)
  • تطوير العلوم الدقيقة
  • نظم سياسية ديمقراطية
  • نسبة الأمية صفر 
  • الوعي المجتمعي 

ومن المسلم به اليوم أن هذه المعايير يمكن أن تكون إشكالية لعدد من الأسباب، حيث أن المعايير الأثرية المستخدمة لتعريف الحضارة ليست دائمًا واضحة المعالم، فهناك الكثير من الحضارات القديمة التي لم يتعلم أهلها الكتابة، لذلك فإن الكثير من العلماء يقيس المستوى الحضاري لمجتمع ما بأربعة مقاييس رئيسة وهي:

  • طرق العيش والظروف الطبيعية
  • الوضع الاقتصادي
  • العلاقات الاجتماعية بين فئات المجتمع
  • أنظمة الحكم السائدة
  • الإنجازات العلمية والثقافية والعمرانية 

أسباب انهيار الحضارات

يُعدّ أرنولد توينبي، المتوفى عام 1975، مؤرخ بريطاني، بل أحد أشهر المؤرخين العالمين في القرن العشرين، ومن أعظم أعماله موسوعة التاريخ التي احتوت على اثني عشر مجلدًا اختتمها بقوله "الحضارات العظيمة لا تُقتل بدلًا من ذلك، يقتلون حياتهم"، ودلل على ذلك بأن هناك 28 حضارة عالمية سقطت ذاتيًا، وأرجع السبب في ذلك عدة علل منها:

  • القيادة السيئة
  • التغير المناخي
  • الطمع والرغبة في التوسع
  • تغيير الهوية

وضرب مثالًا على ذلك بالإمبراطورية الرومانية، والتي كانت ضحية العديد من العلل بما في ذلك التوسع المفرط والتغير المناخي، وبحلول عام 476 م وصلت الإمبراطورية إلى الصفر.

وذكر أن أغلب الحضارات التي بنيت على أسس موضوعية وذات هوية سياسية ودينية واجتماعية هي أكثر الحضارات نضجًا وأطولها عمرًا، في حين أن تلك الحضارات نفسها كان انهيارها سريعًا في بعض الأحيان، وواجهت جميع الحضارات الماضية تقريبًا هذا المصير حين تغيرت هويتهم، ومثال ذلك هما الحضارتان المصرية والصينية، حيث كان العامل المشترك بينهما هو الحفاظ على الهوية، وظلا رغم كل فترات الضعف والانكسار مدافعين عن هويتهم الثقافية والاجتماعية، وتحت أي تهديد وفي أشد أوقات الاختلال، ظلت الهوية الحضارية متأصلة ولم تتأثر بمحتل أو بثقافة أخرى غير التى كانت نتاجًا أساسيًا لتلك الحضارة، بل كان التأثير عكسيًا على المحتل، وبعكس هاتين الحضارتين كانت الانهيارات الأخرى للحضارات القديمة بشكل لا يصدق.

مفهوم الحضارة اليوم

هل كانت الحضارات القديمة شاهدًا على فشل الإنسان في إدارة ماضيه؟ ماذا يريد أن يخبرنا التاريخ عن انهيار حضارات وصعود أخرى؟ وهل تستحق بعض المجتمعات الحديثة والصاعدة إلى طور الحضارة الحديثة أن تكون بديلًا عن الهوية التاريخية؟ ولماذا يتم طمس تاريخ الأمم الحضارية عمدًا؟

الحقيقة أن الحضارة بمفهومها الحديث لم تعد مجرد ذكريات بطولية لقادة عظام ولا مباني شاهقة من الحجارة ولا آثارًا تحت الارض دفن بها تاريخ الأمم، بل أصبح مفهوم الحضارة شاهدًا لأمم جديدة ومقاصد سياحية مهمة، ولكنها قد تطمس إلى الأبد بعد وقت قصير، وبعد هيمنة الإمبراطوريات الحديثة تحت مسمى "القوى العظمى" التي ترتدي عباءة الحرية والعدالة كما يرتدى الذئب ثوب الحملان، على الأمم الحضارية أن تستعيد مجدها بالبحث عن هويتها من جديد وهنا يكمن أهم مدلول لكلمة الحضارة.