تُعدّ كلمتا الحضارة والتراث من أهم المترادفات اللفظية في القاموس العربي، حيث يوجد الكثير من أوجه التشابه اللغوي بينهما ويستخدمهما أغلب الكتاب والشعراء في التعبير عن الأفق التاريخية والتنويرية التي تركها الأجداد، بينما يختلف المعنى الفعلي بينهما، فعند دراسة التاريخ يفرق المؤرخون بين شيئين مهمين هما: الحدث التاريخي والعمق التاريخي؛ العمق التاريخي هو الذي يحدد هوية الأمم وتراثها وعوامل نجاحها في المستقبل، بينما الحدث التاريخي هو سرد متقن للأحداث تظهر نتائجه فيما بعد على شكل من أشكال التنوير الحضاري والمعرفي، بحسب حالة النقل والتأريخ، ولذلك فإن الموروث الحضاري يختلف كليًا عن الموروث الثقافي والعلمي.

الموروث الحضاري

يقول العالم العربي والإسلامي سفيان الثوري "التاريخ هو العمق التنويري لمن يبتغي صناعة المجد في الحاضر والمستقبل" ليظل العمق التاريخي هو مجمل النتائج المؤثرة على مدى تاريخ الجنس البشري منذ ملايين السنين، وتتعدد الدراسات حول تلك الأحداث ومدى تأثيرها على الإنسان، وفي المقابل لم تتوقف دراسات العلوم الإنسانية عن محاولات كشف الهوية الحضارية لكل الأمم القديمة والجديدة على حدة، وحتى في العصر الحديث لم تعد الأرض نفسها كافية لتوقف العلم عن المزيد من الاكتشافات الحضارية، فباتت البشرية تبحث عن مجرات أخرى خارج الأرض، ففي عام 1916 افتتحت الصين مرصد تلسكوب "سكاي آي" وهو أقوى تلسكوب على الأرض، حيث تفوق حساسيته عشر مرات من حامل الرقم القياسي السابق، تلسكوب مرصد "أريسيبو" في بورتوريكو، وتحيط بالتلسكوب شبكة من عشرة تلسكوبات مساعدة قطرها 30-50 مترًا، وقد زادت بفضلها حساسية التلسكوب 6 مرات، وأصبح يعمل بسرعة تفوق سرعته الأولية بنحو 19 ضعفًا، ويقول العلماء إنه ربما يكشف العلماء عن قيام حضارات وكيانات أخرى خارج الأرض، وحيث أن دور الإنسان في إدارة الأرض هو معرفة القيمة المادية والبشرية المتنقلة من جيل إلى جيل، عبر التاريخ في شكل تراث حضاري يجب هنا أن نفرق بين التراث والحضارة .

الحضارة والتراث

عُرفت الحضارة بعدة تعريفات عبر تاريخها من خلال ما وصلنا من كتابات المؤرخين وآراءهم، ويُعدّ تعريف الكاتب الإنجليزي إدوارد تايلور (1832/1917) عن الحضارة هو التعريف الأكثر وضوحًا حيث عرّف الحضارة أنها "اَلْكُلّ الراقي في جميع نواحي الحياة والمركب الذي يجمع بداخله جميع المعتقدات والقيم والتقاليد والقوانين والمعلومات والفنون وأي عادات أو سلوكيات أو إمكانات يُمكن أن يحصل عليها فرد ما في مجتمعٍ ما". وعرفها رالف بادنجتون قائلًا "إنّ حضارة أيّ شعبٍ ما هي إلّا حزمةُ أدواتٍ فكريّة ومادية تُمكّن هذا الشعب من قضاء حاجاته الاجتماعية والحيوية بإشباع، وتمكنه كذلك من أن يتكيّف في بيئته بشكلٍ مناسب، وفي البيئات المحيطة به".

ويعرف علماء اللغة الحضارة بأنها المجتمعات البشرية التي سكنت المدن، والكلمة مشتقة من الكلمة اللاتينية "Civilité" وتعنى المدينة، وعلى الجانب الآخر عُرف التراث على أنه كل موروث ورثته الأجيال التالية يكون ذو قيمة مادية أو معنوية، ويشمل مظاهر التقدم في شتى نواحي الحياة، ويتمثل هذا الموروث في  الكتب والعمارة والتجارب العلمية وعادات وتقاليد الشعوب".

من خلال تلك التعريفات والنظريات يتضح أن الحضارة هي المكون الأساسي للتراث، لذلك أضاف علماء التاريخ لفظًا جديدًا مركبًا سمى بالإرث الحضاري.

الإرث الحضاري

الإرث الحضاري هو مجموعة المعتقدات والقيم والعادات والقوانين والسلوكيات والفنون التي تركتها المجتمعات الحضارية لأسلافهم الجدد، فكل موروث تنويري يجب أن يكون مستلهمًا من أمم ذات مجد تاريخي، ولا يمكن أن نقرن التراث والحضارة، إلا إذا كانت تلك الحضارات ذات سمات وإمكانات تتخطي حدود التاريخ البشري في ذلك الوقت، فقياس التراث الحضاري يكون بمدى تأثيره على الأمم التالية وماذا قدمت لها؟ فعلى سبيل المثال: قدمت الحضارة السومرية للبشرية علم الأبجدية من خلال اكتشاف أول أبجدية كتابية في التاريخ والتدوين، ومن خلالها تركت تراثًا هائلًا من العلوم، والحضارة الصينية اشتهرت بالطب من خلال أسرة هان الحاكمة في القرن الثاني قبل الميلاد، بل هم أول من استخدموا النبيذ في التخدير الموضعي، وفي مصر القديمة حدث ولا حرج عن الإرث الحضاري الكبير من القوانين والتشريعات الحاكمة والهندسة المعمارية والفنون، ثم تترك لنا الحضارتان الرومانية واليونانية إرثًا ضخمًا من الكتابات الأدبية والمسرحيات الشعرية التي لاتزال إلى الآن محل إلهام واقتباس لكثير من كتاب العصر الحديث، ولو تطرقنا إلى الحضارة العربية الإسلامية لوجدنا أنها من أعظم النماذج والأمثلة للحضارات التأملية والروحية، التي قدمت قوانين حاكمة ومنظمة لحياة الأفراد والمجتمعات والدول، ولذلك كانت من أكبر الحضارات الزاخرة بالتراث.

 وعلى وقع الأحداث وبقاء الأمم ونهايتها، يبقى الحفاظ على الإرث الحضاري لكل من أراد أن يعرف مكانة الأمم الحضارية وقيمتها.

الفرق بين الحضارة والتراث

تتعدد الفوارق بين الحضارة والتراث من خلال المنظور الاصطلاحي لكل منهما على النحو التالي:

  • الحضارة متجددة أما التراث ثابت

رغم اندثار الكثير من الحضارات القديمة، لا يمكن أن تتوقف المجتمعات الحديثة في البحث عن تجديد أنماط عيشها ومحاولة تغيير دمائها، بينما يبقى التراث وما تركه لنا الأجداد ثابتًا دون تغيير.

  • الحضارات تزول والتراث يبقى

على مدار التاريخ البشري ارتبطت الحضارات بالتبادل بين الإنسان والطبيعة من جهة وبين المجتمعات بعضها البعض من جهة أخرى، لذلك فإن العوامل المؤثرة في نشوء الحضارة وزوالها هي عوامل طبيعية وفي مجملها تُعدّ أسبابًا مادية بحتة، بينما يعتمد التراث دائمًا على التأمل الفكري والفردي ويرتبط بالجانب الإنساني.

 لذلك فإنه رغم زوال الكثير من الحضارات، يظل تراثها متماسكًا وثابتًا ينتقل من جيل إلى جيل، لذلك يوصف التراث بأنه روح الحضارة، وعلى سبيل المثال فهناك الكثير من أنماط العيش والعادات والتقاليد الاجتماعية التي ظلّت موجودة في بعض المجتمعات رغم زوال حضارتها.

  • الحضارة مادية والتراث روحي

يرتبط التراث بالتأمل الفردي، ومن ثّم فإنه ينعكس على المجتمع ككل بعد أن يصل إلى درجة من السمو العقلي، ويعتمد غالبًا على طرح الأسئلة، ثم التفكير والوصول إلى جواب لها، وفي التراث الديني السماوي الذي وصل إلينا، والذي كان نتيجة البحث والتأمل، تراث إبراهيم -عليه السلام- الذي حدث نتيجة الزخم التنويري الهائل الذي أوجده في مجتمع كان مشهودًا له بالتقدم آنذاك وهو حضارة بابل، نتيجًة لذلك وُصف في الكتب السماوية بأنه "الأمة" لأن تراثه الذي وصل إلينا شكل تراثًا متنوعًا ما بين التراث المعماري والثقافي والعادات والتقاليد.

على الجانب الآخر فإن التراث العلمي الذي تركه لنا بعض علماء الحضارة اليونانية والرومانية في الرياضيات والعلوم قاد البشرية إلى معرفة الكثير من النظريات التي بنيت عليها أسس العلم الحديث، وقامت حضارات مثل الحضارة الإغريقية على عقول الكثير من المفكرين والفلاسفة مثل أرسطو وسقراط وهوميروس، بينما نجد أن الحضارة معنية أكثر بالجوانب المادية والعمارة والتقدم التكنولوجي.

وملخص الفرق بين الحضارة والتراث أن الحضارة هي التطوّر المادي الطبيعي الذي يحققه الإنسان وتركز على الجوانب المالية والاقتصادية والعمرانية، أما التراث فإنه حالة من الود المنطقي بين العقل والطبيعة يبتعد فيها الإنسان عن حاجاته الشهوانية والجسدية المادية ليترك للبشرية موروثًا يبقى لملايين السنين.

تجديد التراث وتجديد الحضارات

إن مفهوم تجديد التراث مفهوم دخيل على المجتمعات البشرية، ساهمت به مجموعة من المفكرين الذين ينتهجون سياسة التحرر من القيود الحضارية الدينية، ولذلك ارتبط مصطلح التجديد بالحضارة الإسلامية، وما تبعها من تراث ثقافي نابض لدى جموع المسلمين، ورغم المتغيرات غير المسبوقة في مسيرة الأمم والحضارات، فإن مفهوم تجديد التراث الديني مفهوم مطاطي يحتمل أكثر من هدف وأكثر من نتيجة، فلا يوجد ما يسمى بتجديد التراث، حيث أن التراث يحتوي على مجموعة من القوانين والقواعد الثابتة، التي لا يمكن أن تتغير مع تغير وتيرة أنماط الشعوب، فهناك ثوابت ترتبط بالدين والهوية الثقافية والاجتماعية للأمم، وأما التراث الفردي فهو مجموعة من الاجتهادات الفكرية الدينية أو العلمية التي يؤخذ منها ويرد.

ورغم ذلك فإنها يجب أن تظل محفوظة لأجيال قادمة من الممكن أن تكون مناسبة لأنماط حياتهم في وقت من الأوقات، وهو نوع من حرية التفكير التي ينادي بها أصحاب مدارس التجديد أنفسهم، والحقيقة التي يجب أن يفكر بها بعض أصحاب مدارس التجديد هي كيفية قياس تقدم المجتمعات؟ فإن مكانة المجتمعات لا تقاس إلا بمدى تقدمها الحضاري والمحافظة عليه، وذلك  من خلال خلق حالة من التوازن بين الاستمرار الحضاري والمحافظة على التراث، فالتراث يمكن الإنسان من معرفة هويته، والحضارة سبب من أسباب التقدم العلمي والتكنولوجي المستمر، حيث أن إدراك الإنسان لمفهوم الحضارة يدفعه إلى السعي الدائم إلى التقدّم والدراسة والبحث والعلم من أجل فهم علاقته مع الطبيعة ومحاولة استثمارها بالطريقة المُثلى.

منذ أن خلق الإنسان وهو يبحث عن كينونته الأرضية والسماوية في محاولة البقاء في الحياة والخلود بعد الحياة، فخلق مجلوبًا على العمل والبناء ليعمر الأرض ويتنقل من مرحلة إلى أخرى تتغير فيها الأوصاف الجسدية والنفسية والعقلية مع تغير وتيرة أنماط العيش وأساليب التقدم، ومنذ العصر الحجري وحتى صعوده إلى آخر نقطة في المجرة الكونية، وجد الإنسان نفسه مخلوقًا حضاريًا قادرًا على التكيف والتغير ومجاراة الطبيعية، وهو ما عرف بالحضارة، وفي محاولة أخرى لكي يفهم الإنسان ذاته وكينونتها السماوية اهتم بالجوانب الروحية والشعورية، ثم قاده العقل إلى الانغماس فيها، ليترك لأسلافه خلاصة تجربته، كي لا يكون منعزلًا عن الحياة، فتوحد التأمل مع الإدارة في خلق حالتين من حالات صراع الإنسان مع البقاء والخلود هما التطور الحضاري والتراث التاريخي.