تشكّلت في القرن التاسع قبل الميلاد  أول حضارة عظيمة في وسط أوروبا، وتحديدًا في إيطاليا، وهي الحضارة الإتروسكانية كما أطلق عليهم الرومان، أو حضارة تيريني كما أطلق عليها الإغريق، أو راسينا كما أطلقوا هم على أنفسهم، ولطالما كان الإتروسكيون شعبًا غامضًا، ويشمل هذا الغموض، أولًا وقبل كل شيء، لغتهم التي فككها العلماء، ولكن لم يفهموها بالكامل حتى الآن، وذلك بسبب ندرة الوثائق المكتوبة التي بحوزتنا، فلنبحر معكم في محيط تلك الحضارة الغنية.

أصل الإتروسكان

ادعى المؤرخ اليوناني هيرودوت في منتصف القرن الخامس قبل الميلاد أن الإتروسكان جاءوا من ليديا في آسيا الصغرى، ويرى أنهم هجروا تلك المنطقة في القرنين الثالث عشر والثاني عشر قبل الميلاد بسبب المجاعة في آسيا، ووفقًا للمؤرخ لديونيسيوس من هاليكارناسوس كان الإتروسكان من السكان الأصليين، أي في الأصل من الأماكن التي سكنوها محليًا مثل الهنود الحُمر في أمريكا اللاتينية والأمازيغ في شمال إفريقيا.

ومع ذلك، هناك شيء واحد مؤكد، وهو أن الإتروسكان لم يكونوا من سكان الهند أو أوروبا لأن لغتهم لا تنتمي إلى هذه العائلة اللغوية، ويرى المؤرخون المعاصرون أن مشكلة أصل هذا الشعب هي مسألة ذات أهمية ثانوية، وحتى لو كانت هناك هجرة من الشرق، فالأكيد أنها كانت ظاهرة بطيئة وليست انتقالًا جماعيًا لشعب وحضارة، وبدلاً من ذلك، يتم التركيز على مسألة تكوين هذه الحضارة كعملية حدثت بالكامل في إيطاليا.

المجتمع في الحضارة الإتروسكانية

كانت الطبقة الحاكمة الإتروسكانية تتكون من كبار ملاك الأراضي والمناجم، وفي الأصل كانوا من الأرستقراطيين، ولكن مع مرور الوقت أصبحت طبقة التجار أكثر قوة، وأحبت الطبقة الأكثر ثراء الاستمتاع بمتع الحياة كما يتضح في العديد من اللوحات الجدارية والأشياء الثمينة الموجودة في المقابر، ومن بين الملذات، بالتأكيد، مآدب غنية وحفلات صاخبة.

 لذلك عاش الإتروسكان الأغنياء في حالة من الرفاهية لا مثيل لها، مقارنة بالشعوب الأخرى، وفي هذا الصدد، لاحظ المؤرخ اليوناني ديودوروس أن الإتروسكان يتمتعون بوفرة في المنتجات الزراعية والأعمال التجارية التي تسمح لهم بالعيش في رفاهية مفرطة، وقال إنهم يضعون طاولات فخمة مرتين في اليوم، مع مفارش مائدة مطرزة بالزهور والعديد من المزهريات المصنوعة من الفضة، وكان يخدمهم عدد كبير من العبيد.

وكان هناك عدد كبير من العمال مقسمين بين عبيد ورجال أحرار، عاشوا حياة أكثر تواضعًا من تلك الطبقة التي ذكرناها.

المرأة الإتروسكانية

هناك جانب في هذه الثقافة يميزها عن الثقافة اليونانية والرومانية، وهي الأهمية التي تخصصها للمرأة، فأول دليل مهم في هذا الصدد هو حقيقة أنه في النقوش الإتروسكانية غالبًا ما يشار إلى اسم الأم بجوار اسم الأب، لذلك، على عكس ما حدث في اليونان وروما، كانت قيمة القرابة من فرع الأم مماثلة لتلك المعترف بها في النسب من فرع الأب. وبالإضافة إلى ذلك، تظهر المقابر بوضوح أنه تم قبول النساء في الولائم وأنهن يمكنهن شرب الخمر، وهي عادات الرجال. 

الدين في الحضارة الإتروسكانية

كان تأثير الثقافة اليونانية كبير جدًا على الإتروسكان وأوضح دليل على ذلك هو التأثير الديني، ففي الواقع، مثّل الإتروسكان آلهتهم في شكل بشري كما فعل الإغريق، وكان تينيا أعظم إله إتروسكاني، وأيضًا هناك بعض الآلهة الوثنية الأخرى مثل الموجودة في أثينا، وهي زيوس ويوني زوجة تينيا وهيرا مينيرفا، ونقل الإتروسكان عبادة تلك الأوثان إلى الشعوب الإيطالية الأخرى، وكانوا يؤمنون أيضًا بأن الآلهة تُعبر عن إرادتها من خلال العلامات الطبيعية، كالأعاصير مثلًا عند غضبها.

وفي هذا السياق، وصف الفيلسوف الروماني سينيكا الاختلافات بين العقلية الإتروسكانية والرومانية، وقال نحن الرومان نقول إن صاعقة حدثت بسبب اصطدام الغيوم بعضها ببعض، لكن يعتقد الإتروسكان أن الغيوم تتصادم لأن الآلهة غاضبة، فإنهم ينسبون كل ظاهرة طبيعية إلى إرادة الآلهة، ويعتقدون أن شيئًا ما يحدث ليس لأن سببًا أنتجها، بل لأن إلهًا استفزها للتعبير عن إرادته.

ووفقًا للإتروسكان، كان من الممكن معرفة المستقبل من خلال مراقبة أحشاء الحيوانات أو هروب الطيور أو الطقس.

مدن الموتى والهندسة المعمارية

تأتي معظم وثائق الحضارة الإتروسكانية من المقابر، والتي تُسمى "مدن الموتى"، ويعتقد الإتروسكان أيضًا، مثل العديد من الشعوب القديمة، أن حياة الروح استمرت إلى ما بعد الوجود الأرضي، لهذا السبب، كانت المقابر، التي تُعدّ منازل الموتى، أعمالًا معمارية مُتقنة بنيت تحت الأرض تقليدًا لبيوت الأحياء، مثل المصريين القدماء، ولإضفاء البهجة على الحياة الآخرة طُليت الجدران بمناظر الولائم والحفلات والرقصات.

من ناحية أخرى، فُقدت العديد من المعابد الإتروسكانية لأنها بنيت من الطوب الخام والخشب، وهي مواد فقيرة وقابلة للتلف بسهولة، ومع ذلك، من المعلوم أنها احتوت على العديد من المنحوتات المصنوعة من الطين المصبوغ.

وتُعدّ النقوش، ولا سيما الجنائزية، السجلات المكتوبة الوحيدة الباقية من الحضارة الإتروسكانية، وخلاف ذلك، فإن الأدب الإتروسكاني يتضح فقط في مراجع المؤلفين الرومان اللاحقين.

واشتُقت الهندسة المعمارية للإتروسكان القدماء من العمارة اليونانية واستمرت في التأثير على عمارة روما المبكرة.

الاقتصاد في الحضارة الإتروسكانية

كان الإتروسكان قادرين على استغلال موارد أراضيهم بمهارة ورُشد، ولتشجيع تنمية الزراعة القائمة على إنتاج الحبوب والنبيذ والزيوت الثمينة، قاموا ببناء القنوات المائية وشرعوا في إزالة الغابات على نطاق واسع لتوسيع الحقول المزروعة والحصول على الأخشاب لبناء المنازل والسفن، ومع ذلك، كانت أهم ثرواتهم الطبيعية تتكون من الموارد المعدنية، مثل النحاس والقصدير والشب (حجر يستخدم لدباغة الجلود)، وقبل كل شيء الحديد من جزيرة إلبا والفضة من أرجنتاريو.

وتم تنفيذ أعمال الحديد في بوبولونيا، وهي بلدة على الساحل  أمام جزيرة إلبا مباشرة، ولتصدير المعادن إلى الأسواق البعيدة، أحكم الإتروسكان السيطرة على طرق البحر الأبيض المتوسط وأصبحت التجارة، خاصة مع الفينيقيين والقرطاجيين، أساس ازدهارهم، وسيطر الإتروسكان بوجه الخصوص على البحر المواجه لأرضهم، وهو ما يأخذ اسم البحر التيراني،  وأخيرًا، صَنعت المعادن حرفة ثرية وراقية للإتروسكان، مدعومة قبل كل شيء بالطلب على السلع الفاخرة للعائلات الأرستقراطية، خاصة في مجال صياغة الذهب.

صعود الحضارة الإتروسكانية وانحدارها

سيطر الإتروسكان على الأراضي الشاسعة الواقعة بين البحر ونهري أرنو والتيبر، حيث أسسوا العديد من المدن هناك، بعضها اختفى مثل فيو وتشرفيتيري وفيتولونيا، ولا يزال البعض الآخر موجودًا مثل تاركوينيا وأريتسو وبيروجيا وفولتيرا. 

ومن هذه المنطقة التي تسمى إتروريا، توسعت الحضارة الإتروسكانية وفرضت نفسها بسهولة على السكان بين القرنين السابع والسادس قبل الميلاد، وجاء الإتروسكيون للسيطرة على المنطقة بأكملها بين وادي بو وكامبانيا التي كانت روما نفسها، وفي هذه الفترة كانت خاضعة لسيادتهم، وفي الوقت نفسه، سيطرت الأساطيل الأترورية على الطرق الرئيسية للبحر التيراني في منافسة مع قرطاج ومدن ماجنا جراسيا.

وحدثت لحظة التوسع القصوى عندما احتلوا شرق كورسيكا بعد الانتصار على اليونانيين في معركة آليا عام 540 قبل الميلاد، وأنشأ الإتروسكان مجتمعًا حضريًا متطورًا قائمًا على دول المدن الحقيقية مثل القطب اليوناني، فكل مدينة كان يحكمها ملك يُطلق عليه لوكومون، وتصف المصادر القديمة المدن الإتروسكانية بأنها مستقلة ومرتبطة حصريًا بالروابط الدينية والتعاون السياسي والاقتصادي. 

ولكن الفشل في تشكيل دولة قوية وموحدة سياسيًا هو السبب في أن الحضارة الإتروسكانية، على الرغم من تطورها وازدهارها وقدرتها على التفوق في إيطاليا لعدة قرون، تراجعت بسرعة عندما هاجمهم الرومان، وتحديدًا في عام 474 قبل الميلاد، فأسطول من سيراكيوز الإيطالية دمر الإتروسكان قبالة ساحل كومو، ليفقد الإتروسكان السيطرة على البحر التيراني إلى الأبد، ثم أبعدتهم الشعوب الكلتية من وادي بو وهاجمهم السامنيون من الجنوب، وأخيرًا، توغل الرومان في قلب إتروريا نفسها وخلال القرنين الرابع والثالث قبل الميلاد، احتلوا المنطقة بأكملها، ليكتبوا نهاية حقبة الإتروسكان.