الحضارة الإسلامية أحد أهم الحضارات التي بدأت في العصر الخامس الميلادي بميلاد قائدها ومعلمها محمد بن عبد الله، وازدهرت الحضارة الإسلامية نموذجًا متفردًا من شبه الجزيرة العربية حتى وصلت إلى أوروبا غربًا ومشارف الصين شرقًا وبلاد القوقاز شمالًا وإفريقيا جنوبًا، واكتسبت الهالة الإيمانية الرافد الأساسي بها بوجود نبي أخر الزمان محمد صلى الله عليه وسلّم، الأمر الذي خصها عن باقي الحضارات الأخرى ببعض الدعائم والسمات المستقلة المستقاة من دستورها الأول القرآن الكريم والسنة النبوية، ورغم أن أغلب الكتّاب والمفكرين الأجانب لا يعترفون بتأثيرها بين الحضارات، لا يحتاج وجود الحضارة الإسلامية وتأثيرها إلى إثبات فهو قائم ومشهود حتى تاريخنا.

ما مفهوم الحضارة؟

في حديث النبي يوسف عليه السلام لإخوته حين التقى بهم على أرض مصر، قال لهم كما ورد في القرآن الكريم (وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي و بين إِخْوَتِي) من خلال هذه الآية الكريمة يتضح أن الحضارة مجموعة من المقومات التقدمية في شتى نواحي الحياة مثل العلم والاقتصاد والفن والنظام السياسي والاجتماعي الذي كان متمثلًا في الحضارة المصرية القديمة حيث يعيش فيها يوسف، بينما جاء إخوته من البدو وهم على عكس أهل الحضر، وأصحاب البادية عكس أصحاب الحضارة؛ لذلك فإن مفهوم الحضارة راسخ منذ قديم الزمان بمفهوم واحد رغم الرؤي المتعددة لها.

ويُعدّ مفهوم الكاتب الإنجليزي إدوارد تايلور( 1832/1917) عن الحضارة هو المفهوم الأكثر وضوحًا، حيث عرّف الحضارة بأنّها " الكلُّ الراقي في جميع نواحي الحياة والمركب الذي يجمع بداخله جميع المعتقدات والقيم والتقاليد والقوانين والمعلومات والفنون وأي عادات أو سلوكيات أو إمكانات يُمكن أن يحصل عليها فرد ما في مجتمعٍ ما".

الحضارة الإسلامية في عيون المفكرين

اعترف البعض من المفكرين والمستشرقين الأجانب بوجود الحضارة الإسلامية وتاريخها العريق وتأثيرها على العالم، بينما أنكر الكثير وجود حضارة إسلامية من الأساس، ووافقهم في ذلك بعض المفكرين العرب معللين ذلك أن الحضارة الإسلامية عديمة التأثير والإلهام وأن كل ما آلت إليه هو بعض العلوم الدينية التى لم تقدم جديدًا للبشرية، ولم يتضح تأثيرها إلّا من خلال غزو شعوب وإرغامها بالقوة في دخول الإسلام خارج الجزيرة العربية، وعلى النقيض من ذلك فإن بعض المنصفين اعترفوا بالروافد التنويرية للحضارة الإسلامية، وعذريتها ونقائها، بل ومدحوا فيها مدحًا قد يصل إلى حد اللا منطق، يقول العالم الإسباني خوسيه لويس بارسيلو:

” أرسى الإسلام مدنية متقدمة تعد في الوقت الحاضر من أروع المدنيات في كل العصور، كذلك فإنه جمع حضارة متينة متقدمة".

ويقول المفكر الإنجليزي ذو الأصول اليهودية فرانز روزنتال:

” يعد ترعرع الحضارة الإسلامية من أكثر الموضوعات استحقاقًا للتأمل و الدراسة في التاريخ، ذلك أن السرعة المذهلة التي تم بها تشكل هذه الحضارة أمر يستحق التأمل العميق، وهي ظاهرة عجيبة جدًّا في تاريخ نشوء الحضارة يمكن تسميتها بالحضارة المعجزة".

خصائص الحضارة الإسلامية

حين نحتاج إلى تعريف يقودنا نحو معرفة الخصائص التي ميزت حضارة عن أخرى فإننا بصدد تعريف جديد للحضارة وهو تعريف رالف بدنجتون حيث قال "إنّ حضارة أيّ شعبٍ ما هي إلّا حزمةُ أدواتٍ فكريّة ومادية تُمكّن هذا الشعب من قضاء حاجاته الاجتماعية والحيوية بإشباع، وتمكنه كذلك من أن يتكيّف في بيئته بشكلٍ مناسب، وفي البيئات المحيطة به "، بالإضافة إلى أن نجاح الحضارات على مر التاريخ كان يعتمد على وجود أربعة عناصر أساسية، هي:

  • الموارد الاقتصادية
  • والنظم السياسية
  • التقاليد الخلقية
  • متابعة العلوم والفنون

ومن خلال التعريفات والعناصر التي حددها علماء الاجتماع، يمكننا القول إن الحضارة الإسلامية جمعت أغلب العناصر الأساسية التي مكنتها من الاستمرار والتوهج، واشتملت أيضًا على بعض الخصائص الأخرى التي ميزتها عن الكثير من الحضارات، فقد خرج العرب من بطون شبه الجزيرة وهم قوم لا يعلمون الكثير عن عادات الشعوب الأخرى وتقاليدهم، بل كانت لهم عادات وصفات مميزة قبل الإسلام مثل الشهامة والكرم، وبرعوا في الفنون مثل الشعر والمناظرات الأدبية، وكذلك في صناعة الأسلحة وتعلم فنون القتال في الصحراء، تلك الأسباب كان من الممكن أن تجعلهم في طليعة الحضارات الأخرى لولا أن علم التدوين لم يكن موجودًا ولم تتبلور هذه السمات بمفهومها الحديث إلا بعد فتح مكة في العام الثامن من الهجرة النبوية حيث بدأت تتضح معالمها ببعض الخصائص ومنها:

  • النظام الاجتماعي والسياسي المرن

بدأ محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام في وضع نظام شبه سياسي ونظام اجتماعي صارم ليمنح الكثير من الحريات والحقوق والواجبات لمختلف الأعراق والأجناس، والتي كانت تعيش في المدينة عن طريق الاحتكام لكتاب الله وسنّة رسوله.

  • ثقافة الدمج والاستحداث

قامت الحضارة الإسلامية على تقبل الآخر حيث عاشت داخل حدودها كل الأديان والمذاهب والعرقيات الأخرى، واستقبل النبي الكثير من الوفود التي دخلت فى الإسلام بإرادتها الحرة، ولم تفرض قوانين بعينها لهؤلاء الذين لم يختاروا الإسلام. وشكلت قوانين المساواة والعدل التى حكم بها المسلمون من كتاب الله وسنة رسوله حائط الصد لضمان حقوق غير المسلم في العيش وضمان الأمن.

وأكبر دليل على ذلك أن الكثير من الأمم دخلت الإسلام بكامل حريتها، بل ودمجت بعض الولايات الإسلامية علماء من مختلف بقاع الأرض ومن خارج الجزيرة العربية، والذين أثروا الحياة الثقافية الإسلامية وكانوا من أصول فارسية ورومية ومصرية، بل ويهودية.

  • استمداد روافد المعرفة وتشجيع العلوم

من خلال الدمج وثقافة تقبل الآخر، بدأ العرب والمسلمون يستمدون العلم من الأمم التي سبقتهم إليه، وكانت وصية القائد تحض على طلب العلم حتى جُعل فريضة على كل مسلم فقال محمد صلى الله عليه وسلم "اطلبوا العلم ولو فى الصين" حتى تعلم المسلمون كل شئ، ثم برعوا في علوم عديدة وتقدموا على ممالك أوروبا فى العصور الوسطى حتى انتقلت جوانب من العلوم الإسلامية إلى أوروبا عن طريق صقلية والأندلس، وبالأخص في طليطلة (من خلال ترجمات جيراردو )، وكان للحملات الصليبية أيضًا دورها في تبادل المعرفة بين أوروبا وبلاد الشام.

دعائم الحضارة الإسلامية

قامت الحضارة الإسلامية على مجموعة من الدعائم والأركان الأساسية، وتلك الدعائم لم تكن وليدة اللحظة فى تاريخ ما أو في زمان ما، ولكنها كانت دعائم إلهية جعلت الحضارة الإسلامية تمتد شرقًا وغربًا، بل وضمنت لها بقائها على الرغم من مرور الكثير من فترات الاضمحلال.

  • المعرفة الربانية

الركيزة الأساسية التي اعتمدت عليها الحضارة الإسلاميّة هي المعرفة الربانية، تلك الحالة التي ساعدت هذا المجتمع الصغير الناشئ أن ينمو ويتغلب على جميع المعوقات والصعوبات الفكرية عبر التاريخ، وساهمت الهالة الروحانية فى قلوب المسلمين الأوائل من حكام وعلماء بشكل كبير في إيجادِ حلولٍ لجميعِ المشكلات التي واجهتها الإنسانيّة، ودون تلك المعرفة التي تأصلت لدى المسلمين لم يكن ليتحقّق الإصلاح في المجتمع ولا لتقم حضارة يشهد لها القاصي والداني.

  •  العدل

لا يوجد حضارة فى العالم قامت على إرساء قواعد العدل بين الحكام والمحكومين من جهة وبين فئات المجتمع من جهة أخرى إلّا الحضارة الإسلامية، فلم يكن الحاكم يعيش في معزل عن شعبه حتى في أوج مظاهر الترف والتقدم، وكان الحكام يطلقون على أنفسهم لقب خليفة المسلمين، وهو خادمهم وراعيهم، ويسخّرون حياتهم في تطبيق قواعد العدل بين الناس، تلك القواعد التي استلهمتها بعض الحضارات الأخرى في تقويم شعوبها وتعليمهم، ونقل قوانين الإسلام في العدل وتحقيق التقدم في شتى نواحي الحياة.

  •  الشورى

قامت الحضارة الإسلامية في بدايتها على نظام الشورى، فقد كان النبي يستشير أصحابه في كل أمر من أمور الدنيا، بل وجاء الأمر الإلهى بالتشاور فقال تعالى "وشاورهم فى الأمر". وكان هذا التشاور منهجًا عامًا وركيزة أساسية دعمت الحضارة الإسلامية وجعلتها أكثر انتشارًا في وقت قصير.

  • المساواة

من أهم الأسباب التي دعمت انتشار الحضارة الإسلامية وسطوعها وتفوقها هو مبدأ المساواة بين جميع الناس، فلو نظرنا إلى جميع الأمم والحضارات القديمة مثل الحضارة المصرية والفارسية والبيزنطية رغم قوتها وازدهارها وتقدمها، فإنها لم تعترف بمبدأ المساواة، وقُسم فيها الناس إلى طبقات، واكتسبت كتب التاريخ هذه المفردات من خلالها، ولكن الحضارة الوحيدة التي لم يذكر فى تاريخها لفظ الطبقات هي الحضارة الإسلامية، حيث جاء الإسلام ليقضي على الفروقاتِ الجنسيّة والتفريق العنصريّ، فلا فرق بين شرقي أو غربي أو عربي أو أعجمي، فجاءت رسالة الإسلام عالمية لجميعِ الأُمم والشعوب ودعت إلى عالمٍ تسود فيه العدالة والحرية والطمأنينة.

  • الدستور

كانت كل أمة متقدمة تضع لها دستورًا حاكمًا وهو القانون العام والأسمى الذي ينظم العلاقة بين الحكام والمحكومين، وكانت هذه الدساتير توضع بأيدى أصحابها، وهذا ما جعل الكثير من الحضارات تتصدع وتنهار بنهاية دساتيرها أو بنهاية أصحابها، إلا أن الحضارة الإسلامية اتخذت لها دستورًا واحدًا على مر العصور، وهو الدستور الإلهي، القرآن الكريم الحاكم والمنزل من السماء.