كان التحنيط يُمارس منذ القدم طوال التاريخ المصري المبكر تقريبًا، على الرغم من أنه ربما تمّ التحنيط في الفترة الأولى من عصور ما قبل التاريخ عن غير عمد، إذ ساعدت الرمال وهواء مصر الجاف وعدم وجود أي أمطار تقريبًا على الحفاظ على المومياوات المدفونة كما هي، وبحلول عام 2600 ق.م، أي خلال عهد الأسرتين الرابعة والخامسة، أصبح تحنيط الجثث يتم عن عمد، واستمرت هذه الممارسة الشائعة عند القدماء وتطورت شيئًا فشيئًا لأكثر من 2000 عام تقريبًا، وبحلول عام 30 ق.م حتى 364 م كانت نوعية التحنيط تختلف باختلاف السعر، ويمكننا أن نعزي أفضل المومياوات المحنطة ببراعة والمحفوظة بشكل جيد إلى عهد الأسرة الثامنة عشرة حتى الأسرة العشرين، أي بين عامي 1570 و1075 ق.م، ومن أهم هذه المومياوات: مومياء توت عنخ آمون، ويقال إن إتقان التحنيط كفن كان في الفترة الانتقالية الثالثة، التي كانت بين عامي 1070 و712 ق.م حتى العصر المتأخر عام 450 ق.م تقريبًا.
أسباب التحنيط عند الفراعنة
ظهرت أول مومياوات مصرية محنطة بحسب السجل الأثري عام 3500 ق.م تقريبًا، أي بحلول عصر الأهرامات "عصر الدولة القديمة"، والذي امتد بين 2686 و2181 ق.م، وكانت عملية تحنيط الموتى عقيدة راسخة في مصر القديمة، وتطورت لتصل إلى مستويات متقدمة للغاية خلال المملكة الحديثة التي امتدت بين 1550 و1069 ق.م، لكن لم يكن تحنيط الموتى ممارسة شائعة لعامة الشعب، بل كان مخصصًا للنخبة فقط، كالعائلة الملكية والعائلات النبيلة وكبار المسؤوليين والأثرياء، وهذا لأن عملية التحنيط كانت تتكلف مبالغ كبيرة للغاية، لذا كان من النادر أن يتم تحنيط أحد من عامة الشعب.
وسعى المصريون القدماء لممارسة التحنيط لاعتقادهم الكامل وإيمانهم الشديد بالحياة الآخرة والعالم الآخر، وأن هناك حياة أخرى على الأرض بعد الموت، لذا فإن ممارسة عملية التحنيط لديهم كانت تعود لأسباب دينية، حيث اعتقد المصريون القدماء أن بموت الشخص تذهب روحه في رحلة تلتقي خلالها بالكائنات الإلهية والشيطانية ليحكم عليها في النهاية أوزوريس إله الموتى، وإذا كان الميت نظيفًا بلا خطايا يُسمح له بالعيش بجانب الآلهة في جنة الخلد، ولكي تقوم الروح بهذه الرحلة يجب على الجسد أن يكون سليمًا، لذا كان المصريون القدماء يهتمون بعملية التحنيط اهتمامًا كبيرًا ويولونها عناية فائقة للغاية.
أسرار عملية التحنيط عند الفراعنة
للأسف لا يوجد الكثير من المعلومات حول الطريقة الفعلية للتحنيط في النصوص القديمة وأغلب ما ذُكر كان طقوس عملية التحنيط لا طريقة العملية نفسها، إلا أن هناك بعض الكتاب والمؤرخين الذين استطاعوا الحصول على بعض من تفاصيل هذه الممارسة، مثل المؤرخ والكاتب اليوناني "هيرودوت"، لذا يمكننا تصور كيفية عملية التحنيط من خلال الخطوات الآتية:
- يُستخرج الدماغ (أو أكبر قدر ممكن منه) عن طريق فتحات الأنف باستخدام خطاف حديدي، والأماكن التي لا يمكن للخطاف الوصول إليها تتحلل بالأدوية.
- يُشق الجنب وتزال محتويات البطن كلها ويتم تنظيف الداخل جيدًا وغسله، ومن ثم ملؤه بمسحوق الراتنج (المر النقي) وبعض المواد العطرية.
- تُخيط الفتحة ويوضع جسم المحنط في ملح النطرون ويغطى به تمامًا لمدة 70 يوم فقط لا أكثر من ذلك، حيث يعمل النطرون على تجفيف الجثة من أي ماء فيها، ومن ثم يقوم المحنط بغسل الجثة جيدًا بعد مرور هذه المدة.
- تُطلى الجثة بالراتنج السائل الذي يساعد في سد مسامات البشرة ويعمل عازلًا للرطوبة وطاردًا للحشرات والكائنات الحية الدقيقة.
- يُستخدم شمع العسل لغلق الأنف والعينين والفم وتلون الشفتين والخدود بأحد مستحضرات التجميل.
- يُلف جسد المحنط بالكامل من الرأس إلى القدمين بقطع الكتان التي قد تصل لمئات الأمتار والمغموسة في الراتنج المضاف له شمع العسل.
- كان البصل الصغير يستخدم في بعض الأحيان ليوضع مكان العينين أو يوضع مكانهما كرات من الكتان، ومع حكم الأسرة الثالثة أصبحت الأعضاء الداخلية كالبطن والمعدة والكبد والأمعاء تخزن في أواني خاصة بعد غسلها بنبيذ النخيل بعد أن كانت تدفن في أرضية المقبرة سابقًا، لكن القلب كان يبقى مكانه في الجسد لأن المصريين القدماء رأوه مركز الذكاء.
- في عصر المملكة الوسطى أصبح هناك قناع يوضع على وجه المتوفى، وكانت معظم هذه الأقنعة مصنوعة من ورق البردي أو الكتان المطلي بالجص، وفي حالات قليلة كان يُصنع من الخشب، أما في المومياوات الملكية فكان القناع يُصنع من الذهب أو الفضة، وأشهر أقنعة المومياوات هو قناع الملك توت عنخ آمون.
الأدوات المستخدمة في التحنيط
كان المحنطون يستخدمون القليل من الأدوات في عملية التحنيط، وعند الانتهاء من هذه العملية الدقيقة كانوا في بعض الأحيان يتركونها في المقبرة أو بالقرب منها، وهذه الأدوات كانت سكينًا (تشق به البطن) وقضبان برونزية معقوقة (يستخرج بها المخ) وأداة تشبه العود مصنوعة من الخشب (لإزالة الأعضاء الداخلية) وقمع (يصب به الراتنج في الجمجمة من خلال فتحات الأنف).
طقوس الجنازة بعد عملية التحنيط عند الفراعنة
بعد انتهاء عملية التحنيط، كان الكهنة يقومون بأداء بعض الطقوس الدينية عند مدخل القبر، ومن أهم هذه الطقوس هو طقس يسمى "فتح الفم"، حيث كان الكاهن يلمس أماكن مختلفة من المومياء باستخدام أداة خاصة ليفتح بها أجزاء من الجسم أمام الحواس التي يحتاجها المتوفى للتمتع في الحياة الآخرة، فمثلًا كان الكاهن يلمس الفم بهذه الأداة، وهذا يعني أن الميت يمكنه الآن التحدث وتناول الطعام، وأنه جاهز لرحلته إلى العالم الآخر، وفي نهاية الحفل كانت المومياء توضع في النعش أو التابوت ويتم إدخالها إلى حجرة الدفن ويغلق مدخل القبر.