مرّت على الصين العديد من السلالات الحاكمة التي خلّفت وراءها العديد من الآثار والوثائق المكتوبة، ومن المعروف أن الكتابة المسمارية في بلاد ما بين النهرين هي أول ظهور معروف للكتابة، ولكن إذا صُنفت المنحوتات الصينية المكتشفة التي تعود بتاريخها إلى عام 6000 قبل الميلاد، مثل رموز جياهو (Jiahu) ورموز البانبو (Banpo)، منحوتات ووثائق مكتوبة، فستسبق الكتابة الصينية الكتابة المسمارية! وتُسمى هذه النصوص الصينية المكتوبة نصوص جياجوين.
ما هي نصوص جياجوين؟
نصوص جياجوين (بالإنجليزية: Jiaguwen) هي أقدم أشكال النصوص الصينية المكتوبة التي تتبع الكتابة الصينية الحديثة مباشرة، والتي احتلت مكانة مهمة في الطقوس الدينية في عهد أسرة شانغ بين القرنين السابع عشر والحادي عشر قبل الميلاد، وعُثر على أكثر من 150 ألف قطعة من نصوص جياجوين في مدينة أنيانج في مقاطعة خنان، ويمكن تحديد خصائصها من خلال الكتابة الهيروغليفية الصينية أو الإيدوغرافية التي تختلف اختلافًا جذريًا عن الحروف الأبجدية وعددها.
معنى جياجوين
نُقشت أقدم النصوص الصينية المعروفة على عظام الحيوانات الكبيرة وعلى أصداف السلحفاة، لذلك سُميت تلك النقوش باسم نصوص جياجوين أي نص الصدفة والعظام، ورغم أن أشكال الأصداف والعظام ليست موحدة في الحجم، أخذت جميعها اسم جياجوين حيث يرتبط محتوى جميع النصوص بالتكهنات الدينية أو الأسطورية القديمة أو الطقوس، ويُعرف جياجوين أيضًا باسم نص عظم أوراكل.
تاريخ نصوص جياجوين
تعود نصوص جياجوين إلى أواخر عهد أسرة شانغ واستمرّ استخدام عدد قليل منها في أوائل عهد أسرة تشو، أي بين 1400 إلى 1050 قبل الميلاد، وكان نظام كتابة محددًا بالفعل في ذلك الوقت مما دفع البعض إلى التكهن بأن النصوص الأولى كُتبت قبل ذلك الوقت بعدة مئات من السنين، ومن الجدير ذكره أنه بتأريخ المنحوتات التي عُثر عليها باستخدام الكربون، وُجد أنها تعود إلى حوالي 1500 عام قبل الميلاد.
وبالنظر إلى التقويم الصيني الحالي، فيُزعم أنه وُضع حوالي 2637 قبل الميلاد، بالإضافة إلى أن السجلات المكتوبة تعود إلى حوالي 4000 عام، ولا توجد تواريخ في الوثائق الصينية قبل هذا التاريخ.
تسجيل نصوص جياجوين
لم يعرف الصينيون بشكلٍ خاص، والعالم بشكلٍ عام، صناعة الورق إلا مؤخرًا مع حكم أسرة هان (206 ق.م- 220 م)، لذلك كانت نصوص جياجوين والنقوش والكتابات المختلفة تُسجل على قذائف السلحفاة وأصدافها وعلى عظام أوركيولار أو القوالب الطينية أو الأدوات البرونزية وتُنحت عليها حتى ظهرت تقنية الصب البرونزي في وقتٍ لاحق، ومن الجدير ذكره أن المؤرخين وجدوا أن لنوع الوسائط المُستخدمة تأثير على طريقة توثيق الكتابة وتسجيلها وطريقة استخدامها.
استخدام نصوص جياجوين
كانت نصوص جياجوين ذات أهمية كبرى في عهد أسرة شانغ حيث كانت تُستخدم في أنشطة الطقوس الدينية وإجراءات الكهانة، وتشير النقوش الأثرية التي عُثر عليها أن الكتابة الصينية –في ذلك الوقت- مُنحت خصائص سحرية حيث كانت وسيطًا بين الناس وبين القوى العليا، وكان استخدامها مقتصرًا على مؤسسة السلطة العليا وعلى المعتقدات والممارسات الدينية الرسمية فقط.
تطور نصوص جياجوين
كان استخدام الكتابة ونصوص جياجوين يحظى بطابع رسمي في عهد أسرة شانغ، ولكن خلال الحقبة التالية، أي مع أسرة تشو التي حكمت في القرنين الحادي عشر والثالث عشر قبل الميلاد، ومع تحول المفهوم الديني القديم إلى آراء فلسفية وأخلاقية، انعكس ذلك في معاني الكتابة الهيروغليفية التي تمّ من خلالها تحديد أي نص مكتوب حتى القرن الأول الميلادي تقريبًا، واتُخذت الرسومات التخطيطية والأنماط للإشارة إلى عمل أو طقس معين، واتُخذت أنماط الألوان الزرقاء والحمراء رموزًا للمبادئ الكونية للإناث (يين) والذكور (يانغ)، وهو ما يظهر جوهر العمليات التي يقومون بها ويدل على التناغم والانسجام الكوني.
ولعبت الكتابة دورًا مهمًا خلال النصف الثاني من حكم أسرة تشو، فترة حكم تشون كيو (الربيع والخريف، 770 – 476 قبل الميلاد) وفترة حكم جو كو (الممالك المتحاربة، 475 – 221 قبل الميلاد)، حيث تبلورت المفاهيم الاجتماعية والسياسية والأخلاقية وأصبحت الكتابة الهيروغليفية أحد مراكز الفكر النظري الصيني التي نُقل من خلالها مفاهيم مثل التنوير والثقافة والحضارة، وساهمت الكتابة أيضًا في تحول الإبداع الأدبي إلى عنصر حيوي في نظام الدولة حيث ساعدت على سير نظام الدولة بتسجيل المراسيم وتقارير العرش والأوامر الإمبراطورية وغيرها.
بالإضافة إلى ذلك، تحددت السمات الشكلية للكتابة فيما بعد ولم تعدّ قاصرة على الاستخدام الرسمي فقط بل انتشر استخدامها في الأدب والشعر، ويُذكر أن النص الشعري كان الأكثر تنظيمًا لذلك جاء على رأس التسلسل الهرمي في الأنماط اللفظية المُنظمة. وتتضمن أقدم النصوص الشعرية الأصلية نقوشًا على الأواني والأدوات البرونزية، ويوجد أكثر من 40 عينة من النقوش الشعرية المعروفة من القرنين العاشر والثامن قبل الميلاد، وكان محتوى هذه النقوش الشعرية يسرد الأحداث التي وقعت في عهد الملوك الأوائل (وانغ تشو) وغيرها من الأحداث، بالإضافة إلى أناشيد عن التضحيات واحتفالات البلاط.
تطور الكتابة الصينية
مرّت الكتابة الصينية بعدة مراحل حيث بدأت المرحلة الأولى بنصوص جياجوين التي نُقشت على عظام الحيوانات والأواني البرونزية ومرّت ببعض المراحل والتعديلات حتى وصلت إلى صورتها المعروفة لنا الآن، وتبعها نوع من الكتابة يُسمى "جينوين أي النص المعدني"، وفيه كانت الكلمات تُحفر داخل الأواني وتُزخرف وتُقدم في الاحتفالات الخاصة، ومن الجدير ذكره أن هذه الكتابة كانت تعتمد بشكلٍ كبير على التصاميم المزخرفة والنقوش رغم الاحتفاظ بالبنية العامة للنص المكتوب.
وهناك أيضًا كتابة "جوين أي النص القديم" وكتابة "داتشوان أي الختم الكبير"، وهما ما يمثلا المرحلة الثانية من تطور الكتابة الصينية، ومن الجدير بالذكر أن الإمبراطور شيهوانغدي، أول إمبراطور في أسرة تشين، أعطى رئيس وزراءه أمر بتوحيد الكتابة الصينية مع توحد الصين لأول مرة في القرن الثالث قبل الميلاد ولم يُسمح إلا باستخدام نمط الكتابة الجديد فقط.
وهناك أيضًا المرحلة الثالثة من الكتابة الصينية التي تُعرف باسم "شياوزوان أي ختم صغير"، وهي خطوط متساوية في السمك مع العديد من المنحنيات والدوائر، وتميل كل كلمة إلى ملء مربع وهمي في سلسلة من المربعات المتساوية المرتبة بدقة في أعمدة وصفوف متوازنة ومتباعدة بشكل جيد. ورغم أن غرض هذه الكتابة كان تلبية الطلبات المتزايدة لحفظ السجلات، لم تكن الكتابة مناسبة لأن أسلوب الختم الصغير ليس سريعًا بما يكفي.
وبالتالي، ظهرت المرحلة الرابعة، وهي "ليشو أو النمط الرسمي"، وتعني كلمة "لي" الموظف الصغير أو "الكاتب" وهو أسلوب مُصمم للكتبة. وبالرغم من ذلك، لم ينجح هذا الأسلوب أيضًا بسبب وجود دوائر وعدد قليل من الخطوط المنحنية وبسبب السرعة المطلوبة للكتابة وعدم اتزان الفرشاة المُستخدمة في الكتابة.
وهنا يأتي دور المرحلة الخامسة، مرحلة زينشو أو النص العادي. أُنشئ هذا الأسلوب خلال فترة الممالك الثلاث وشي جين، وهو الأسلوب المتبع في كتابة الصينيين اليوم حيث تعود الكتابة الصينية الحديثة إلى ما يقرب من 2000 عام ولم تتغير الكلمات المكتوبة منذ القرن الأول من العصر المشترك، ويعني النص العادي النص الذي يكتبه جميع الصينيين ويستخدمونه في الوثائق الحكومية الرسمية.
لمعرفة المزيد حول الكتابة بشكلٍ عام، أهم اختراع عرفته البشرية، اطلع على هذا المقال.