أسس المسلمون دولتهم في الأندلس في شبه الجزيرة الأيبيرية عام 711م، بعد أن استطاعوا السيطرة عليها بقيادة طارق بن زياد وضمها للأراضي التابعة للخلافة الأموية، واستمر وجود المسلمين في هذه المنطقة حتى سقطت غرناطة عام 1492م، ومرت الأندلس بالعديد من الفترات وتعاقب عليها الكثير من الحكام، منهم من تميز بالحكم الرشيد والذكاء فكانت فترته فترة قوة وازدهار، ومنهم من كان حاكمًا ضعيفًا غير مؤهلًا أو طامعًا، فكانت فترته فترة تدهور وانهيار.
ومن أهم الفترات التي مرت على تاريخ الأندلس وأقواها هي فترة حكم الدولة العامرية التي أسسها الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر عام 978م الموافق 367 هجرية، حيث بلغت الدولة الإسلامية في هذا الوقت قمة ازدهارها وتقدمها في الوقت الذي كانت فيه الممالك المسيحية في قمة انهيارها وضعفها، وتُعدّ الدولة العامرية دولة تابعة للخلافة الأموية، لأن حكم بني أمية كان ما يزال قائمًا في هذا الوقت، على الرغم من أنه كان يمر بأخر مرحلة من مراحل حياته ووجوده، واستمرت الدولة العامرية حتى عام 1086م الموافق 478 هجرية، حين أسقطها القادر بن ذي النون حاكم طليطلة السابق في بلنسية.
أصل الدولة العامرية
السلالة العامرية أو سلالة بني عامر هي سلالة عربية تعود أصولها إلى القحطانيين، وهذه السلالة تأسست على يد محمد بن أبي عامر المنصور في الفترة بين 978م و1002م، ومن بعده ابنه الأكبر عبد الملك بن محمد في الفترة بين 1002م إلى 1008م، واللذان استطاعا بعد عدة حملات ناجحة في منطقة شمال الأندلس أن يضما برشلونة عام 985م وفاس في المغرب عام 986م، وكانت فترة حكمهم تابعة للدولة أو الخلافة الأموية، والتي كانت تمر بأخر فتراتها من الضعف والانهيار.
تاريخ نشأة الدولة العامرية وقيامها
سميت الدولة العامرية بهذا الاسم نسبة إلى مؤسسها أبي عامر محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن عامر بن الوليد بن يزيد بن عبد الملك المعافري الذي يعرف اختصارًا باسم محمد بن أبي عامر، والذي اشتهر والده بالورع والتقوى واعتزاله لأمور السلطة، وكان محمد ابنه طالب علم مجتهد وفطن، انتقل إلى الأندلس وتوسعت مداركه أكثر وأكثر في طلب العلم، حتى تعرفت إليه زوجة الخليفة الحكم المستنصر بالله، والتي كانت تدعى صبح، فقربته من القصر بفضل مهاراته وذكائه، الذي مكنه من تطوير مكانته هناك سريعًا حتى أصبح المسؤول عن القوة العسكرية.
وحين توفي الحكم كان ابنه الخليفة هشام المؤيد ما يزال صغير السن لم يتجاوز العشر سنوات، فأصبح محمد بن أبي عامر حاجبه وموجهه، الذي استطاع تحقيق العديد من الانتصارات في المعارك التي قادها ضد من يهددون الحكم في الأندلس، فزادت مكانته عند السيدة صبح وعند عامة الشعب، وحين أدرك بن أبي عامر مدى القوة التي يتمتع بها في ظل ضعف من حوله، قام بالسيطرة على الحكم وحجب هشامًا وأبقاه دون سلطة في قصره ليصبح هو الحاكم الفعلي للأندلس، ومن ثم بدأ بالتخلص من خصومه واحدًا تلو الآخر، ثم قام ببناء مدينة الزاهرة التي تقع شرق قرطبة على نهر الوادي الكبير أو النهر الأعظم، وجعلها مقرًا لحكمه وعاصمة للأندلس، ثم انتقل إليها حين تم الانتهاء منها عام 370 هجرية، وفي العام التالي أطلق عليه لقب المنصور وأصبح يعرف منذ هذا الوقت بالمنصور بن أبي عامر.
فترة توسع الدولة العامرية
ظلت الدولة العامرية تابعة للخلافة الأموية حتى أسقط بن أبي عامر الخليفة هشام وتقلد الحكم منفردًا، فأخذ يتوسع بحدود الدولة العامرية بعد أن قام بعدة حملات ناجحة في شمال الأندلس، فتمكن من الاستيلاء على برشلونة عام 985م، ثم استولى على مدينة سانت يعقوب (شانت ياقوب) عام 997م، وفي المغرب تمكن من الاستيلاء على فاس عام 986م، ولأن المنصور كان ذكيًا دعا صديقه القديم وقائد البربر جعفر بن حمدون الذي كان على معرفة وثيقة بالمغرب، لكي يساعده في الحصول على ولاء البربر له، فلم يرق هذا الأمر لأحد قادات المنصور، والمعروف باسم غالب الناصري، فتمرد عليه وحاول قتله، لكن المنصور هرب ونجا من القتل.
فجهز كل منهما جيشًا لملاقاة الآخر، وطلب غالب العون من راميرو الثالث ملك ليون ضد جيش المنصور، وحين التقى الجيشان رفع غالب صوته وقال: "اللهم إن كنت أصلح للمسلمين من ابن أبي عامر فانصرني، وإن كان هو الأصلح لهم فانصره" وذهب بفرسه تاركًا الجيشين اللذان ظنا أنه يريد القليل من الخلوة قبل الحرب، لكن طال غيابه في الخلاء، فذهب بعضًا من جنوده للبحث عنه فوجدوه ميتًا موتةً طبيعية، حيث قدر الله له أن يموت دون أن يكون غالبًا أو مغلوبًا أو مقتولًا.
سقوط الدولة العامرية
بعد وفاة المنصور تولى الحكم من بعده ابنه الكبير عبد الملك، وقام باستكمال مسيرة والده والسير على خطاه منذ توليه حتى وفاته عام 1009م الموافق 399 هجرية، وكان يعرف عبد الملك بالصلاح والتقوى والورع، وكان يجاهد في سبيل الله ويغزو الممالك المسيحية مرة أو مرتين في العام، ودام حكمه لمدة 7 سنوات تقريبًا كانت فيها أمور الدولة العامرية على خير ما يرام، إلا أنه بعد وفاته ساءت أمور الدولة، حيث تقلد أخيه عبد الرحمن بن المنصور مقاليد الحكم، والذي عرف باسم عبد الرحمن شنجول -وهو الاسم الذي كانت تناديه به والدته في الصغر، لتتذكر والدها سانشو غرسيه ملك نافار الذي أهداها للمنصور بن أبي عامر ليتزوجها، فاعتنقت الإسلام– وكان شخصًا هوائيًا يفعل المنكرات ويشرب الخمر وهذا ما أثار عليه حنق الأمويين الذين لم يستطيعوا فعل أي شيء تجاه ما يفعله في البداية.
وعلى الرغم مما كان يقوم به من منكرات، كان يفعل ما يقوم به والده وأخوه من قبله ويغزو الممالك المسيحية كل عام، فاستغل الناس انشغاله بهذا وأسقطوا الخليفة الأموي وعينوا بدلًا منه محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر، وهو رجل من بني أمية يعرف بلقب المهدي، الذي أرسل جيشًا قام بقتل عبد الرحمن بن المنصور وقطع رأسه، وبموته سقطت الدولة العامرية في الأندلس عام 1009م، وهرب بعدها الابن عبد العزيز بن عامر إلى بلنسية التي كانت تحت سلطة أحد أتباعه، وأسس الدولة العامرية هناك في الفترة بين 1021م و1061م، وبحلول عامي 1061م حتى 1065م استطاع بنو ذي النون حكام طليطلة إجلاء بني عامر عن بلنسية، قبل أن يتمكنوا من استردادها مرة أخرى ليقوم آخر حكام بني ذي النون بإجلاءهم مرة أخيرة عام 1085م، وبهذا تسقط الدولة العامرية من الوجود تمامًا.