إذا ذهبت إلي إسبانيا يومًا ما فستجدها بلد مليء بالتقاليد والرقصات غير العادية وواحدة من تلك التقاليد وأكثرها شهرة هي موسيقى الفلامنكو في جنوب إسبانيا، وهي أسلوب موسيقي مصحوب بالغناء والرقص، وسيشاهد أي مسافر إلى هناك ملصقات لراقصات الفلامنكو وصور وتمثيلات لهن، فالفلامنكو يستحضر العاطفة والمزاج والطاقة، وهو أحد أكثر أشكال الفن المبهجة التي يمكن الاستمتاع بها بالمعنى المرئي والمسموع.

 أصل موسيقى الفلامنكو

وُثقت أصول الفلامنكو (بالإسبانية: Flamenco)‏ على مدى المائتي عام الماضية فقط، لكننا نعلم أن هذا النمط من الموسيقى بدأ في الأندلس في جنوب إسبانيا عندما كانت إسبانيا تحت السيطرة العربية، ونُقل الكثير مما نعرفه عبر أجيال من العائلات التي شاركت في تقليد الغناء والرقص على هذا النوع الفريد من الموسيقى، وكُيّف أسلوب الإصدار الأصلي وأدواته بمرور الوقت، وتحولت هذه الموسيقى إلى نوع خاص يختلف اليوم تمامًا عن الإصدار الأصلي.

ولعلنا نجد في الفلامنكو تأثيرات عديدة في ثقافات متنوعة للغاية، فهذا ليس مفاجئًا، وذلك لأن أكثر الحضارات والثقافات تنوعًا مرت عبر هذه الأرض، فقد استقر الفينيقيون واليونانيون والقرطاجيون والرومان واليهود والمسلمون والقوط والغجر في هذه الأرض منذ قرون، وبالتأكيد تم استيعاب هذه التأثيرات في الموسيقى والرقص.

مراحل تطور موسيقى الفلامنكو

هناك مرحلتان في تاريخ موسيقى الفلامنكو، وهما مرحلة ما قبل التاريخ ومرحلة ما بعد التاريخ، فكما هو الحال في تاريخ البشرية، فإن عصور الفلامنكو (ما قبل التاريخ) هو كل ذلك التطور الذي لم يتم تسجيله في الوثائق أو حتى عن طريق النقل الشفهي.

فقد بدأ الفلامنكو كطريقة للرقص، وأدى الراقصون صوت التصفيق البسيط المسمى "توك دي بالماس" عندما قُدم هذا الأسلوب من الرقص في مقاهي الموسيقى في سبعينيات القرن التاسع عشر، حيث  بدأ عازفو الجيتار في المشاركة وجذب المزيد والمزيد من الجمهور وتنمية الوعي بموسيقى الفلامنكو.

وطُور فرع من فروع الفلامنكو يسمى "كانتي جوندو" حيث يعبر الراقصون عن مشاعرهم العميقة باستخدام حركات الجسد وتعبيرات الوجه ويصفقون بأيديهم ويركلون بأقدامهم في أثناء أدائهم، مما يزيد من تميز هذه الرقصة وهذا النوع الفني.

تطور الفلامنكو في العصور الأولى

بأخذ جولة قصيرة حول تطور الفلامنكو كما نعرفه اليوم، يمكننا أن نبدأ بفترة أكثر حداثة بين عامي 1765 و1860، في هذا الوقت، نجد ثلاث بؤر مهمة قد وضعت مدارس خاصة بها، وهي قادش وخيريز دي لا فرونتيرا وحي تريانا في إشبيلية، فمنذ هذا الوقت، بدأت رقصة الفلامنكو في الحصول على مكان بين الرقصات الإسبانية التي يتم تأديتها، والتي غالبًا ما تؤدى في الأفنية والفنادق والساحات عند إقامة الحفلات.

وبقدر ما يتعلق الأمر بالجيتار، في البداية، لم يصاحب الجيتار عادةً آلات أخرى وكانت الموسيقى تُؤدى  بأسلوب جاف دون أي مرافقة أخرى غير التصفيق، وبعدها بدأ بعض الملحنين مثل "جوليان أركاس" في تأليف الأغاني بأصوات الفلامنكو لتبدأ حقبة جديدة.

العصر الذهبي لموسيقى الفلامنكو

وبين عامي 1860 و1910، دخل الفلامنكو عصر أكثر غزارة، والذي أصبح يسمى العصر الذهبي للفلامنكو، ففي هذا الوقت ازدهرت المقاهي الغنائية وتطورت جميع جوانب الفلامنكو، وهي الآلة والرقص والكلمات، وحينها تأسس ما يمكن أن نعدّه كلاسيكيات "جوندو" التي منحت الرقصة روعة غير مسبوقة، وهذا ما جعل الجمهور ينجذب إلى هذه المقاهي الغنائية.

وبين عامي 1910 و1955، تميزت موسيقى "الكانت" وبدأت  مرحلة أخرى سُميت بمرحلة "أوبرا الفلامنكو" حيث ظهرت الكانتات الأخف مثل الفاندانجو والرقصات الأخرى التي طُبعت بطابع أمريكا الجنوبية والتي جلبها المغنون الذين كانوا مهاجرين في أمريكا اللاتينية، ولم يحب الجميع هذا المسار الجديد الذي سلكه الفلامنكو، وفي عام 1922م، أنشأت مجموعة من المثقفين، مثل "فالا" وفنانين آخرين، مسابقة في غرناطة بهدف البحث عن قيم جديدة من شأنها أن تطور الفن وتعيد له بريقه.

وابتداءً من عام 1915، أُنتجت دورة من الرقص المسرحي بجودة استثنائية، حيث انتقل الرقص الإسباني عامة ورقص الفلامنكو خاصة إلى جميع أنحاء العالم. وابتداءً من عام 1955، وجدنا أنفسنا مع عصر النهضة للفلامنكو.

يتميز الفلامنكو بوجود مطربين وراقصين وعازفي جيتار من الرجال والنساء، وكانت "لولا فلوريس" واحدة من عظماء موسيقى الفلامنكو. ويُذكر أن أخر مراحل تطور الفلامنكو ليصبح الفن الذي يعرفه الجميع ويحبه اليوم هو اعتماده رقصة وطنية من قبل الديكتاتور الإسباني فرانسيسكو فرانكو.

ذروة الفلامنكو

لم يبدأ الفلامنكو في شق طريقه إلى المسارح وقاعات الحفلات الموسيقية إلا في الخمسينيات تقريبًا، حيث بدأ عازفو  الفلامنكو بلعب دور أكثر هيمنة في المجتمع، ويمكن رؤية الراقصين وهم يحملون صنجات، وهي أداة نقر صغيرة محمولة باليد، وقد أصبح عزف الجيتار والصناج تمثيلًا شائعًا للثقافة الإسبانية وأسلوب الفلامنكو الذي نعرفه اليوم، وأُحضر الفلامنكو إلى المسرح العالمي ويُقدم الآن في بلدان أخرى غير إسبانيا.

الفلامنكو في عصرنا الحالي

من ناحية أخرى، وصل الفلامنكو إلى القارات الخمس بفضل الفنانين الذين نشروه، وأدى هذا الوصول إلى ظهور حقبة جديدة، وذلك بعد ظهور وسائل الإعلام، ولهذا السبب، لم يعد بإمكاننا القول إن "موسيقى الفلامنكو" هي مظهر فني حصري للأندلس، فهي ملك للعالم ككل. واليوم في الأندلس يمكننا حضور عروض الفلامنكو الأكثر أصالة، التي يؤديها راقص ياباني أو عازف جيتار إيطالي، فالكل يستطيع المشاركة في عزف الفلامنكو دون النظر إلى جنسيته، وحتى يومنا هذا يأخذ أعظم الفنانين الأندلسيين الفلامنكو إلى أماكن كثيرة حول العالم.

 وفي الأخير، تظل الأندلس عاصمة الفلامنكو مهما نَدرت المصادر، وللاستمتاع بهذا النوع من الموسيقى فما عليك إلا الذهاب إلى هناك، فستجده في أنقى صورة، فموسيقى الفلامنكو ملك للعالم ومنبعها ذا صلة بالأندلس في عهد العرب.