فن الأوبرا... فن الياقات البيضاء!

ظلّ الإنسان عبر جميع العصور يبحث عن ذاته الفكرية والاجتماعية، حتى شكّل الفن الإنساني منذ القدم حجر الزاوية في تكوين الحضارات والثقافات المختلفة حول العالم، وعند دراسة التاريخ الإنساني بأكمله، فإن الأمم والحضارات لم تبقَ ولم تصل إلينا إلا من خلال فنونها وثقافتها، وحيث أن فن الأوبرا من الفنون الإبداعية التي انتشرت داخل أوروبا، حتى أطلق على جمهورها أصحاب الكرافاتات أو الياقات البيضاء، فقد ساهم هذا الفن بشكل كبير في تقدم الفنون الأوروبية بصفة عامة ورقيها.

نبذة عن فن الأوبرا

افتُتحت دار أوبرا ( لا سكالا - Alla Scala) -أول دار أوبرا في العالم- فى إيطاليا عام 1778 لتمثل الانطلاقة الأولى لفن الأوبرا. ورغم حداثته، فإن فن الأوبرا له جذور مترامية في الماضي البعيد حيث أن نمط الموسيقى الغنائية به ما هو إلا تطوير لترانيم جنائزية ارتبطت بالأساطير في بعض الحضارات والثقافات القديمة، بالإضافة إلى الترانيم الكنائسية في دولة الفاتيكان في حقبة العصور الوسطى، وهذا ما يفسر ارتباط الموسيقى عامة والفن الأوبرالي خاصة باللغة الإيطالية.

ومع اهتمام المؤلفين الموسيقيين الأشهر في العالم، مثل موتسارت وبتهوفن وغيرهم، بهذا الفن، بدأ الاهتمام بمزج الموسيقى الغنائية بفن آخر أكثر شمولًا، وهو المسرح، لذلك فإن فن الأوبرا من الفنون القليلة التي تمتزج وتتداخل فيما بينها الكثير من الفنون.

ومن خلال هذه المقدمة، يمكن أن نصل إلى تعريف بسيط لفن الأوبرا بأنه نوع من أنواع الدراما المسرحية المقدمة عن طريق الغناء والموسيقى، وتحديدًا الموسيقى المسرحية التي تُعدّ أحد أركان العمل الدرامي الذي يحتوي بجانب الموسيقى إلى النص، سواء كان نصًا أدبيًا أم شعريًا، بالإضافة إلى التمثيل والرقص وتصميم الأزياء والديكورات.

أصل كلمة أوبرا

تعني كلمة أوبرا العمل، وهي كلمة لاتينية ظلت في اللغة الإيطالية كما هي، وحيث أن الإيطالية هي أقرب اللغات إلى اللاتينية، لم تفقد الكلمة معناها حتى الآن، وهو العمل أو بذل الجهد، ومن خلال معنى الكلمة يترائى لنا أنه أُطلق على فن الأوبرا تحديدًا، حيث يمثل عملًا متكاملًا يندرج تحته عدة أعمال أو عدة فنون تمتزج ما بين الفن المنفرد أو مع الفرقة الموسيقية (الكورال ).

نشأة فن الأوبرا وتطوره

شكّل الفن الذاتي المتمثل في الإبداع الفردي على مر العصور حلقة مهمة من حلقات التطور الإنساني في التعبير عن الذات ورصد ما يدور من أحداث. وتُعدّ الحضارة الإغريقية من الحضارات التي ساهمت بشكل كبير في ثورة الفن منذ قديم الأزل، خاصة الفن المسرحي، بفضل كتابات الشعراء والأدباء الإغريق أمثال هوميروس وسوفوكليس وغيرهم، والفلاسفة أمثال أرسطو وسقراط، لا سيما أن الإغريق هم أصحاب علم التدوين. وفى فترة لاحقة من فترات عصر الدولة الإغريقية، ظهرت مجموعة من الناس أطلق عليها لفظ الجوقة، وهم مجموعة من المنشدين الذين كانوا ينشدون بعض الأناشيد الدينية بالتزامن مع احتفالات الإله ديونيزوس.

ومع تطور العمران البشري، أُنشئ المسرح لتتحول النصوص الأدبية إلى أحد أشكال الحياة النابض من خلال توفر عنصرين أساسيين هما الممثلين أو المؤديين والمتفرجين أو المشاهدين.

وتطور المسرح بشكل كبير ليبحث العديد من المبدعين المولعين بالفن إلى الابتكار وجلب المزيد من الموسيقيين والكتاب للبحث عن طرق جديدة لفنون العرض، وهو ما حدث بتطور فن الأوبرا الذي ولد من رحم المسرح، لذلك أطلق عليه أبو الفنون، وفي النقاط التالية نستعرض تطور الفن الأوبرالي:

  • أول أوبرا في التاريخ كانت من تأليف الموسيقار الإيطالي بيرى، وسُميت أوبرا بيرى وكان عملًا مسرحيًا يتسم بالبساطة تصاحبه بعض الآلات الموسيقية والأصوات البشرية في اتحاد نغمي وفق طبقاتها الصوتية.
  • في مدينة البندقية عام 1600، طور الكونت (جيوفاني باردي – Giovanni Bardi) مسرحية من التراجيديا الإغريقية على غرار أوبرا بيرى ولكنها لم ترَ النور.
  • انتقل الكونت جيوفاني باردي بعد ذلك إلى مدينة فلورنسا والتقى بمجموعة من أشهر الموسيقيين والكتاب الإيطاليين فأطلقوا على أنفسهم لقب جماعة الأصدقاء أو كاميراتا (Camerata) فى عام 1600.
  • قامت مجموعة الأصدقاء بزعامة الكونت جيوفاني باردي والكاتب المسرحي (جوليو كاتشيني-Giulio Caccini ) بإخراج مسرحية تراجيدية تتخللها الموسيقى وتوصلوا إلى نموذج مسرحي جديد أطلق عليه اسم (الأوبرا ).
  • ( كلاوديو مونتيفيردي – Claudio Monteverdi) هو صاحب أول أوبرا عالمية بعنوان «تتويج بوبيا»، وكان ذلك في عام 1642، وتضمنت توزيعات الفرق الموسيقية باستخدام آلات موسيقية مختلفة.
  • فى عام 1778، افتُتحت أول دار أوبرا في العالم وهي دار أوبرا لاسكالا في ميلانو بإيطاليا.
  • في القرن الثامن عشر، قدم الموسيقار الإنجليزي جورج فريدريك هاندل أول عمل أوبرالي من نوع جديد وهو «رينالدو»، وهي أول أوبرا غنائية باللغة الإيطالية، واعتمدت الأوبرا على مؤثرات بصرية ساحرة.
  • نجح الثنائي هاندل ومدير مسرح آرون هيل في تحويل الأوبرا إلى وسيلة الترفيه الرائجة في تلك العصور، حيث اعتمدت على المؤثرات الصوتية والكوميديا الأوبرالية مبتعدة عن النموذج التراجيدي.
  • افتُتحت أول دار أوبرا عالمية فى فرنسا في عام 1875، وهو قصر غارنييه الذي يُعد تحفة معمارية رائعة وأحد المقاصد السياحية الأولى في فرنسا حول العالم.
  • منذ القرن التاسع عشر، بدأت دور الأوبرا تنتشر في أغلب العواصم الأوروبية، وانتقلت إلى بعض العواصم العربية عن طريق التبادل الثقافي والفني بين تلك الدول.
  • في مصر، وفي عصر الخديوي إسماعيل، أُنشئت أول دار أوبرا فى مصر بواسطة المهندس المعماري الإيطالي أفو سكاني، وافتُتحت عام 1871 لتكون مصر أول عاصمة عربية تتألق فيها الفنون الأوروبية ومنها فن الأوبرا.

خصائص فن الأوبرا

يصف الكثير من النقاد والفنانين فن الأوبرا بأنه أحد مظاهر جميع الفنون السبعة، وهو من الفنون المعقدة التي يصعب فهم لغتها الموسيقية والدرامية، مما جعل أكثر جمهور هذا الفن من الصفوة والمهتمين بمجال الفن المسرحي عمومًا، وتُعدّ الأوبرا الإنجليزية والصينية من النماذج الأوبرالية الأكثر صخبًا، إذ تعتمد على فنون مثل الأكروبات والخدع البصرية، وهو النوع الرائج والأكثر انتشارًا فى أغلب دور الأوبرا الآن حول العالم، وتتلخص السمات المميزة لفن الأوبرا كما يلي:

  • فن الأوبرا هو عمل متكامل يشتمل على سبعة فنون هي: الشعر والموسيقى والغناء والباليه والديكور والفنون التشكيلية والتمثيل الصامت.
  • المغني الأوبرالي هو السبب الرئيسي في نجاح العمل المسرحي إذا كان العمل يعتمد على الفردية، حيث يمكن الاستعانة بمؤدي غنائي واحد مع التمثيل الصامت أو الرقص لباقي أفراد المجموعة.
  • يعتمد الغناء الأوبرالي على الفرديات والثنائيات والثلاثيات والإلقاء المنغم والغناء الجماعي (الكورال) بمصاحبة الأوركسترا.
  • يعتمد الديكور المسرحى الخاص بفن الأوبرا على الخدع البصرية وإضفاء الخيال والسحر على المسرح.

أشهر مغنيي فن الأوبرا في العالم

وضحنا سابقًا أن المغني الأوبرالي هو أحد عوامل نجاح العمل، وقد شهدت المسارح العالمية مجموعة متميزة من فناني الأوبرا العالميين، ونذكر منهم.

لوتشانو بافاروتي - Luciano Pavarotti (1935 – 2007)

واحد من أشهر شخصيات القرن العشرين، وهو مغني أوبرالي وأكاديمي من أصل إيطالي، امتلك مهارة صوتية غير عادية، وبفضل صوته برع أيضًا في بعض مجالات الغناء الأخرى.

وشارك لوتشانو بعض مغنيي موسيقى البوب الأمريكية إلا أنه حافظ على وضعه الأساسي من خلال الأداء الأكاديمي داخل الأوبرا، وحصل على عدة منح من الحكومة الإيطالية. وبرع في العمل الخيري من خلال مشاريع جمع الأموال للاجئين السياسيين ومنظمة الصليب الأحمر.

خوسيه كاريراس – José Carreras  

مغني أسباني ولد عام 1946 في برشلونة، ويملك خامة صوتية فريدة من نوعها، أصيب بمرض اللوكيميا فى الثمانينات ثم شفى منه فأنشأ جمعية مساعدة مرضى السرطان في إسبانيا.

حسن كامي (1936 – 2018)

مغني أوبرالي مصري بدأ حياته العملية بدار أوبرا القاهرة منذ سنة 1963، وقام بدور البطولة في أوبرا عايدة على مسارح الأوبرا في الاتحاد السوفيتي عام 1974، وقام بغناء دور البطولة في 270 أوبرات عالمية على مدى 24 عامًا. وحصل على الجائزة الثالثة العالمية في الغناء الأوبرالي من إيطاليا عام 1969 والجائزة الرابعة العالمية عام 1973 والجائزة السادسة من اليابان عام 1976.