تقول الحكمة الصينية إن "الحياة يجب أن تكون نابضة بالحيوية"، ومن المعروف أن التراث الفني الصيني القديم يزخر بالعديد من الكنوز والأسرار التي يحاول العالم اكتشافها حتى اليوم، وعلى الرغم من براعة الصينيين في بناء حضارة كبرى على ضفاف النهر الأصفر وتقدمهم في شتى نواحي الحياة ومن بينها الفن، ما وصلنا منها شحيح جدًا ولا يرقى إلى قيمته ومكانته، ليحتل تاريخ الفن الشرقي مكانة أقل بالمقارنة بتاريخ الفنون الغربية والأمريكية.

وتُعدّ أوبرا بكين أحد أهم مظاهر الفنون الشرقية التي نشأت في عاصمة الدولة الصينية، ومزجت قصصها بين عوالم الخيال والأساطير، وارتدى ممثلوها الأزياء من نوع مختلف، واتسمت موسيقاها بالتعبير عن جوانب الثقافة الصينية من خلال مسرحيات تاريخية وكوميدية شكلت توثيقًا مهمًا للتاريخ والمبادئ الأخلاقية العامة.

وظلت أوبرا بكين بهذا الاسم حتى اليوم منذ نشأتها، إلى جانب أنها تطورت مع التقدم العلمي والتكنولوجي الذي انفردت به عاصمةً للفنون في الكتلة الشرقية من العالم، ولم تتوقف عن التحديث والتطوير كمثيلتها الأوروبية مواكبةً بذلك التقدم الفني النابع من الازدهارالاقتصادي. ومنذ القرن الماضي، شهد الفن الأوبرالي الصيني طفرة كبرى، وانتقل من مجرد محاكاة فن شعبي إلى أطوار كثيرة من الغناء وتلاوة الكلمات والرقص والموسيقى والأزياء وطرق العرض.

ويُذكر أن فن الأوبرا في العالم وُلد من رحم الأناشيد الدينية بينما ولدت أوبرا بكين من رحم الطبيعة الإنسانية، ولم تكن وليدة الصدفة بل تأثرت بغيرها من الأوبرا العالمية فى النمط العام، ومع ذلك فإنها استطاعت أن تجتذب جمهورًا مختلفًا كان غالبيتهم من السيدات والأطفال من مختلف الطبقات الاجتماعية، وذلك بفضل استحداث أنماط حديثة مواكبة للتقدم التكنولوجي الهائل في طرق العرض والخدع البصرية.

ورغم ذلك بقيت شهرة أوبرا بكين محلية لعدة أسباب من أهمها الموقع الجغرافي الذي يشكل بلا شك عائقًا أمام وصول هذه الفنون إلى الغرب والشرق الأوسط، ومع ذلك فإن ثقافة الصينين لم تعتمد على الانغلاق والعودة إلى الوراء، بل إن كثيرًا من فناني الأوبرا في الصين كشفوا عن امتلاكهم تسجيلات لمايكل جاكسون وولعهم بـسيلين ديون.

ما هي أوبرا بكين؟

يعني مصطلح أوبرا بكين "Pingju" باللغة الصينية و"Peking Opera" باللغة الإنجليزية، وظهر للمرة الأولى في قاموس أكسفوررد عام 1953 مردافًا لكلمة فن الأوبرا، وهو شكل من أشكال الأوبرا المسرحية التي نشأت في دولة الصين الشعبية، وبفضل الطبيعية الجغرافية المتنوعة الممتدة على مساحة نحو ( 9.5مليون كيلو متر مربع ) وكذلك الإرث الحضاري المتعدد، انتشرت العديد من الثقافات المختلفة التي مثلت جوانب الحياة الطبيعية والتاريخية والحضارية، وأعطت تلك الأفضلية الفن الصيني موقعًا منفردًا بذاته غير قابل للمحا كاة أو التقليد.

وكان الفن المسرحي هو العامل الرئيسي في نشأة فن الأوبرا وتطوره هناك من خلال المسرحيات الإقليمية القديمة التي كانت تعرض فى عدة مقاطعات احتفالًا بإمبراطور المقاطعة. وفي وقت لاحق، اتخذت العديد من الأشكال الدرامية في التطور لتصل قبل مائتي عام إلى شكل من أشكال الأوبرا المسرحية المعتادة والتي اُطلق عليها أوبرا بكين.

ورغم وجود أكثر من 360 نمطًا لفن الأوبرا في أقاليم الصين، تمثل أوبرا بكين الأوبرا الوطنية في الصين، وذلك لأنها الأكثر تأثيرًا وتمثيلًا لجميع دور الأوبرا، وتُعدّ أيضًا واحدة من ثلاثة أنظمة مسرحية رئيسية في العالم، وهي مزيج من الموسيقى والرقص والفن والألعاب البهلوانية وفنون الدفاع عن النفس، وتتميز برسوماتها الجميلة وأزيائها الرائعة وإيحاءاتها الرشيقة إلى جانب وجود نظام فني شامل.

 معلومات عن نشأة أوبرا بكين وتطورها

  • شكّلت الأوبرا الصينية واحدة من أهم أشكال الفنون الترفيهية والأكثر شعبية في البلاد منذ عام 721.
  • نشأت أوبرا بكين من خلال اندماج العديد من الأعمال الفنية والترفيهية الممتدة على مر العصور والأسر الحاكمة منذ سلالة هان وحتى الثورة الشيوعية في الصين.
  • بدأ تطور فن المسرح عمومًا وفن الأوبرا بصفة خاصة في عهد حكم سلالة مينغ (من 1368 إلى 1644م) وسلالة تشينغ (من 1644 إلى 1911م).
  • في عام 1790 وفي الذكرى الثمانين لإمبراطور الصين العظيم شان لونج، حضر إلى بكين أشهر فرق الموسيقى من مختلف المقاطعات الصينية، وكانت حينذاك تسمى "فرق أنهوي الأربعة الكبرى" أوبرا آنهوي وأوبرا هوجو.
  • ظلت هذه الفرق تقدم عروضها للجمهور بعد أن كانت مقصورة على القصور الملكية فقط، وبعد فترة وجيزة وصلت  العديد من فرق هوبي وهان وفرقًا غنائية مسرحية من مختلف المقاطعات الصينية إلى بكين وقدمت عروضها بالاشتراك مع فرق آنهوى.
  • تشكلت أوبرا بكين فعليًا عام 1845.
  • قدمت أوبرا بكين أول عروضها الخارجية في اليابان عام 1919 وفي عام 1930 زارت فرقة صينية لأوبرا بكين بقيادة مي لان فانغ الولايات المتحدة، وبعض الدول الأوروبية.
  • شهدت أوبرا بكين في الفترة ما بين 1920 وحتى 1942 تطورًا سريعًا بعد امتزاج موسيقى الجنوب مع الشمال، مما أدى إلى ظهور أربعة أنماط رئيسة من أوبرا بكين وهي:
  •  مذهب مي لان فانج (من عام 1894 إلى 1961)
  • مذهب تشانغ شياو يون (من عام 1900 إلى عام 1976)
  • مذهب تشنغ يان تسيو (من 1904 إلى 1958)
  • مذهب شون هوى شنغ (من عام 1900 إلى عام 1968)

*وكان لكل مذهب من المذاهب الأربعة المذكورة مجموعة من الممثلين والممثلات، بالإضافة إلى الموسيقيين والمؤلفين وطرق العرض.

  •  حظي الفن الصيني بدائرة الاهتمام الحكومي بعد الثورة وتمتعت أوبرا بكين بالدعم الحكومي الكبير.
  • أصبحت تعرض الآن داخل المسارح في المدن الصينية الكبرى مثل بكين وشنغهاي وغيرهما كثير من برامج أوبرا بكين.
  • أصبحت أوبرا بكين (Pingju) أو (Jingxi) حاليًا أكثر الأوبرا تأثيرًا في الصين ووسيلة فعالة لزيادة التبادلات الثقافية بين الصين ومختلف دول العالم.
  • فى عام 2000 أصبحت أكبر ثالث أوبرا عالمية.

الشكل الفني وأهم سمات أوبرا بكين

لا تختلف أوبرا بكين في الشكل العام عن غيرها من الأوبرات العالمية، فهي فن شامل يضم عدة فنون تمثيلية كالغناء والتلاوة والتمثيل والرقص وحركات القتال التمثيلية وتقديم القصص التاريخية والحكايات الشخصية والاجتماعية التي تُقدم للمشاهدين بأسلوب تمثيلي خاص ولا تعتمد في الغالب على الأصوات الغنائية القوية، ولعل أهم ما يميزها هو وجود الألعاب البهلوانية "الأكروبات" كنوع من أنواع التعبير والجذب، وتتسم أوبرا بكين بعدة سمات هي:

  • الأدوار والشخصيات.

تنقسم الشخصيات في أوبرا بكين إلى أربعة أنواع من الأدوار الرئيسة، وهي: شنغ (الذكور) ودون ( الإناث) أو جينغ (دور الذكور الداعم) وتشو (المهرج أو الشخصية السلبية)، والتي تم تصنيفها حسب العمر والمهنة.

  • المكياج

من السمات الرئيسية لأوبرا بكين الألوان المرسومة على وجه الشخصية وهي ليست أقنعة.

  • مهارات الأداء

 تتكون مهارات الأداء الرئيسية في أوبرا بكين من الغناء والتحدث والتمثيل وفنون الدفاع عن النفس.

  • الحوار

تُتلى الحوارات والمونولوجات الأوبرالية بلهجة بكين، ويتم نطق بعض الكلمات بطريقة خاصة تنفرد بها أوبرا بكين.

  • التمثيل الصامت.

يستخدم فنانو الأداء عيونهم وتعبيرات وجوههم للتعبيرعن معاني محددة، بالإضافة إلى استخدام حركات تعبيرية صامتة تتجلى جميعها في حركات الممثلين والممثلات بأسلوب منمق.

  • الرقص والأكروبات

تهتم أوبرا بكين بالرقص الفلكلوري والأكروبات في أغلب فصول المسرحية.

  • الديكورات.

مع التقدم التكنولوجي الكبير أصبحت الخدع البصرية والمؤثرات الصوتية من أهم أسباب عوامل نجاح أوبرا بكين.

أشهر فناني أوبرا بكين

  • مي لان فانغ (1864 – 1961)

هو أحد أكبر قادة أوبرا بكين في العصر الحديث، ولد في عائلة تضم أغلب الفنانين الذين مثلوا ميلاد فن الأوبرا على مر العصور، وذاعت شهرته في الصين وفي كثير من دول العالم، وخلال أكثر من نصف قرن من مشواره الفني التمثيلي، قدم مساهمات كبيرة لتطوير الفن التمثيلي لأوبرا بكين من ناحية أطوار الغناء وتلاوة الكلمات والرقص والموسيقى والأزياء، مما شكّل مذهبًا تمثيليًا فريدًا يُعرف باسم مذهب ماي لان فانغ التمثيلي في أوبرا بكين.

  • مي باو جياو (1934 – 2016)

والده هو باو جياو أحد أكبر الممثلين ومؤلفى الموسيقى في أوبرا بكين، وظهر مي باو جياو لأول مرة على المسرح وهو في سن الثالثة عشر، وبعد خمس سنوات فقط تأهل للأداء، ويُعدّ مي باو جياو أكثر محافظة مقارنًة بالإصلاح الإبداعي الذي حاول والده إدخاله في بكين، وقضى وقتًا طويلًافي استعادة الأعمال الفنية المتميزة لوالده وملائمتها وجمعها.

وفي الختام، تجدر الإشارة إلى أن أوبرا بكين طبقت الحكمة الصينية بحق وكانت نابضة بالحيوية في جميع جوانبها من حيث الألوان والخدع البصرية وطرق العرض والأزياء وغيرها من العناصر، فاجتذبت جمهور مهم من النساء والأطفال غير مألوف بكثرة في غيرها من الأوبرا العالمية.