منذ ما يُقارب 2300 عام، سيطرت الإمبراطورية الفارسية على أكثر من مليوني ميل مربع، وكان يقطنها ما يقرب من نصف سكان العالم في ذلك الوقت، فعلى الرغم من أن إمبراطورية الإسكندر الأكبر نالت شهرة واسعة ويعدّها البعض إمبراطورية مهيبة، أسس الفرس أول إمبراطورية عظيمة في التاريخ.

الإمبراطورية الفارسية... التاريخ والأصل

ليس من المستغرب أن تكون أول إمبراطورية عالمية عظيمة نشأت في نفس المنطقة التي شهدت ظهور مجتمعات متزايدة التباين والتعقيد، حيث كان الفارسيون في الأصل من البدو الرحل الذين أتوا من الهضبة الإيرانية واستقروا في جنوب غرب إيران، وفي منتصف القرن السادس قبل الميلاد، فتح انهيار الإمبراطورية الآشورية الباب أمام الشعب الفارسي لغزو الإمبراطوريات المُنافسة بسرعة هائلة، ففي أقل من قرن، غزوا الميديين والليديين والبابليين الجدد، وفي النهاية المصريين.

وفي أوجها عام 500 قبل الميلاد، كان عدد سكان الإمبراطورية الفارسية حوالي 50 مليون نسمة، وهذا الرقم ما جعل الإمبراطورية الفارسية واحدة من أكبر الإمبراطوريات في التاريخ، على الأقل من حيث النسبة المئوية لسكان العالم في ذلك الوقت، والتي كانت ما بين 100 و160 مليون نسمة فقط.

 تاريخ مُزيف

 تخيل أن قصة حياتك كتبها أعداؤك، هكذا كان الأمر بالنسبة للإمبراطورية الفارسية منذ آلاف السنين، فالكثير مما نعرفه عن هذه الإمبراطورية التي نشأت بين أعوام 559 و331 قبل الميلاد، جاء من أعمال المؤرخين اليونانيين هيرودوت وزينوفون، وبالطبع نحن ممتنون لعملهم، لكن لديهم بعض المشكلات، فهيرودوت يُعرف باسم "أبي التاريخ وأبي الأكاذيب" أيضًا، أما زينوفون فكان جنديًا مرتزقًا في الجانب الخاسر من الحرب الأهلية الفارسية، فبين عملهم وما كتبته الشعوب الأخرى المحتلة من الفرس، ليس من المستغرب أن يتم تصويرهم بشكل سيء للغاية.

فعلى سبيل المثال، كتب هيرودوت "ليس لديهم صور للآلهة ولا معابد ولا مذابح، ويرون استخدامها علامة على الحماقة"، وكان هذا بسبب أن الإغريق  عبدوا العديد من الآلهة في العديد من المعابد المختلفة،أي أن من يخالف عاداتهم متأخر ثقافيًا، وتابع هيرودوت "لا توجد أمة تتبنى بسهولة العادات الأجنبية مثل الفارسية"، اليوم، قد نفكر في ذلك على أنه التسامح والترحيب بالأفكار والثقافات الجديدة، لكن بالنسبة لليونانيين في ذلك الوقت، كانت علامة ضعف كبيرة وكان هيرودوت سعيدًا بلفت الانتباه إليها كونها نقطة ضعف.

وفي القرنين الماضيين، عثر علماء الآثار واللغويون والمؤرخون على مصادر فارسية جديدة وتمكنوا من قراءتها وتفسيرها، ففي بعض الحالات، يتوافق ما كتبوه مع مصادر متداولة، وفي حالات أخرى لا يتوافق طبعًا، وهذا تذكير بأنه عند قراءة المصادر التاريخية لأي شعب يجب أن نسأل عمّن كتبها ولماذا.

الديانة

الديانة في عهد  الفُرس هي الزرادشتية، وهي واحدة من أقدم أنظمة الإيمان في العالم وسُميت على اسم (الرجل الحكيم) زرادشت عند الفرس، ولكنه اشتهر باسم زوراستر من قبل هيرودوت (المعروف أيضًا باسم زاراثسوترا)، وأعلن العديد من الشعب الفارسي عبادته وأعلنوا أنه الإله الأعلى، وادعوا أنه من خَلق البشر وأعطاهم الإرادة الحرة، مما أدى إلى الصراع الأبدي بين الحقيقة والأكاذيب وبين الخير والشر، وكان هناك إيمان بيوم القيامة حيث يذهب الخير إلى الجنة ويذهب الشر إلى الجحيم. 

وعلى الرغم من أن الزرادشتية أصبحت في النهاية ديانة بارزة، لم تصبح أبدًا الديانة الرسمية للدولة، وخلافًا للكتاب اليونانيين وأفلام هوليوود، لم يُرى الملوك الفارسيون أبدًا بأنهم آلهة ولم يطالبوا شعبهم بعبادتهم، ومع ذلك، مثل العديد من الحكام في جميع أنحاء العالم عبر التاريخ القديم، حاولوا إضفاء الشرعية على حكمهم من خلال المطالبة بالصالح الإلهي.

الملك كورش العظيم

هناك مقولة تقول "أبقِ أصدقاءك قريبين واجعل أعدائك أقرب"، وعلى الرغم من أن الملك الفارسي الأول، كورش العظيم، لم يشاهد تلك الأفلام التي اقتبسنا منها تلك المقولة، فهم المعنى حيث استخدم كورش، الذي يتمتع بمهارات عالية في دمج الشعوب التي تم غزوها من قَبل الإمبراطورية الفارسية، أساليب متسامحة لكنها عملية لإضفاء الشرعية على الحكم الفارسي، وهي السياسية بمفهومنا الحالي، فأولًا، جلب الملوك الذين تم السيطرة على بلدانهم إلى حكومته، وجلبت تلك السياسة الهدوء والسلاسة  إلى الحُكم الفارسي وساعدت في الحفاظ على ولاء الحكومة والشعوب المحتلة للإمبراطور.

وأسس سايروس أو كورش العظيم وابنه قمبيز الثاني الحدود الجغرافية للإمبراطورية، وبعدهما أكد الملك الثالث داريوس أن ذلك سيستمر من خلال إنشاء مؤسسات الحكم التي سمحت باستمرار النجاح في فترة كورش وقمبيز، وكان الفرس يحترمون التقاليد المحلية ولم ينفوا الشعوب المُحتلة أو يطردوهم.

التوسع بكفاءة

قديمًا كانت هناك سياسة مُتبعة مفادها أن حجم الإمبراطورية يجب أن يكون محدودًا بالمسافة التي يمكن أن تقطعها في غضون أسبوعين بالخيل، وإن توسعت أكثر من ذلك، تصبح الإمبراطورية أكبر من أن تُحكم بفعالية وكفاءة، لكن الفرس قاموا بدمج مجموعة متنوعة من الأفكار لتوسيع حجم الإمبراطورية الفارسية، فأولًا، استخدموا سلاح الفرسان جزءً من جيشهم وكان لديهم إمداد ثابت من الخيول، وثانيًا، أعادوا بناء الطريق الملكي الذي يبلغ طوله 1700 ميل وتوسيعه لتسهيل التواصل والسفر والتجارة وتحريك جيشهم.

لذا بدلاً من الحد من التوسع، جعلوا الأمور أيسر للسيطرة على جزء أكبر من الأرض، وثالثًا، استخدموا نظام المرزبانية الموروث عن الآشوريين، وفيه كانت المقاطعات حكومات إقليمية، كل منها يحكمها حاكم عينه الملك الفارسي، وفي كثير من الأحيان كان هؤلاء الحكام يرتقون من بين صفوف الشعوب التي تم فتحها.  

واشتهر الفرس بتسامحهم مع العادات والتقاليد والأديان المحلية وحكموا بشكل سلس وخفيف، وكل ذلك ساعد في دعم شرعية حكمهم.

الاقتصاد في عهد الإمبراطورية الفارسية

رُبطت الحكومات الإقليمية البعيدة عن الإمبراطورية بالطرق لإدارتها سياسيًا واقتصاديًا، وربطت الإبتكارات الإدارية للفرس أيضًا مجتمعات البحر الأبيض المتوسط ​​والمحيط الهندي وآسيا الوسطى في شبكة تجارية بعيدة المدى تُعدّ أول شبكة تجارة عالمية، وقام الإمبراطور الفارسي داريوس أيضًا بتسهيل التجارة من خلال توحيد العملة الذهبية التي تحمل اسمه (داريك)، و هذا يعني أن التُجار أصبح لديهم الآن مقياس مشترك للقيمة أينما ذهبوا في الإمبراطورية.

التراجع والسقوط

بدأت الحكاية بهجرة العديد من اليونانيين من المدن اليونانية المختلفة إلى آسيا الصغرى (تركيا الآن)، وأقاموا مستعمرات واستقروا فيها، ومع توسع الفُرس، أصبحت تلك المدن والمستعمرات اليونانية تحت الحكم الفارسي، ومثل العديد من الشعوب الأخرى التي تعايشت مع الفُرس، كان اليونانيون مندمجين وشغلوا العديد من الأدوار المُهمة في الإمبراطورية الفارسية، فكانوا جنود وأطباء لملوك الفرس، لكن أثينا وبعض المدن اليونانية أقنعت إحدى هذه المستعمرات، وهي أيونيا، بالتمرد ضد الفرس.

لذلك رد الفُرس بغزو اليونان، وانتهى الغزو بانتصار يوناني مفاجئ في مدينة ماراثون في العام 490 قبل الميلاد، وتقع المدينة على بعد حوالي 25 ميلًا من أثينا، بعدها أخمد الفرس الثورة الأيونية بعد عشر سنوات من الصراع (480 قبل الميلاد)، وعاد زركسيس الأول ابن داريوس إلى اليونان لتصفية الحساب. 

وأعقب النجاح الفارسي الأولي في معركة تيرموبيل كارثة بحرية في سالاميس، حيث هَزم اليونانيون الجيش الفارسي الذين تقطعت بهم السبل في بلاتيا، لتنتهي الهجمات الفارسية على اليونان.

وأخيرًا، وبعد ما يقارب مائة وخمسين عامًا (334 قبل الميلاد)، غزا الملك المقدوني الأسطوري، الإسكندر الأكبر، بلاد فارس بجيشه المكون من المقدونيين واليونانيين، ليحطم الإسكندر الفرس في معركة بعد معركة وعلى مدار عشر سنوات، وفي النهاية، سقطت الأرض التي يسيطر عليها الفرس تحت أيدي جنرالات الإسكندر، لتسقط الإمبراطورية الفارسية، أول وأكبر إمبراطوريات الأرض.