كانت مدينة البندقية الإيطالية الشاطئية  منذ حوالي ألف عام مركزًا لمجتمع بحري قوي، مع مصالح تجارية وصلت إلى قارات آسيا وإفريقيا، فليس من السهل تلخيص التاريخ المعقد لجمهورية "سيرينيسيما" في سان ماركو بكلمات قليلة، ومن أجل وضع جمهورية البندقية بشكل أفضل في السياق التاريخي الصحيح، يجب فهم كيف، ولماذا، ظلت البندقية، على مر القرون، كيانًا سياسيًا مستقلًا تمكن من البقاء من خلال رعاية مصالح الطبقة الأرستقراطية التجارية الثرية.

نشأة جمهورية البندقية

 تعود أصول البندقية إلى الغزو اللومباردي لإيطاليا في الفترة بين القرنين الخامس والسابع الميلادي، حيث بدأ عدد كبير من سكان إقليم فينيتو، بسبب غارات لومبارد المستمرة، بالاستقرار في البحيرة التي كانت مأهولة في السابق فقط من قبل الصيادين المتجولين وعمال الملح. وفي البداية، لم تكن بالتأكيد البندقية مدينة، بل كانت مجتمعات مختلفة متحدة سياسيًا ووضعت ثقافيًا وسياسيًا في المدار البيزنطي. وفي عام 584 م، شكلت هذه المجتمعات دوقية وأصبحت جزءًا من إكسرخسية رافينا.

وبعد احتلال اللومبارديين لمدينة أوديرزو، أخر بؤرة استيطانية بيزنطية في المناطق النائية لمدينة البندقية (641 م)، انتقل سكانها إلى الجزر الصغيرة ومراكز البحيرات مثل إيراكليا وألتينو وتورتشيلو، والتي أصبحت، بعد ذلك، مراكز سياسية بيزنطية جديدة. 

وكان أن أول دوق انتخبه المجتمع الفينيسي هو باولوتشيو أنافيستو عام 697 م، في حين أن أول من تمتع ببعض من الاعتراف السياسي من الجانب البيزنطي كان أورسو، الذي انتُخب في عام 727، وابتداءً من عام 751، عندما اختفت إكسرخسية رافينا نهائيًا، شُكلت جمهورية البندقية ككيان سياسي مستقل.

أصل اسم سيرينيسيما ورمز الجمهورية

هناك فرضيات مختلفة حول أصل اسم سيرينيسيما، حيث كان لقب حكام بيزنطة الذين حكموا البندقية حتى عام 1453، وهو التاريخ الذي سقطت فيه بيزنطة نهائيًا، وعلى الرغم من سقوطها، ظل هذا اللقب ملاصقًا للبندقية.

هناك أيضًا من ينسب هذا اللقب إلى صلابة الجمهورية التي ظلت صامدة، بفضل الازدهار، للأوليغارشية الليبرالية التي حكمتها حتى عام 1700، على الرغم من التوسع التركي واكتشاف أمريكا.

 أما عن رمز مدينة البندقية وجمهوريتها القديمة، فهو أسد مجنح يمثل القديس مرقس الإنجيلي يصور بهالة على رأسه وكتاب مفتوح بين كفوفه، وتقول الأسطورة إن ملاكًا على شكل أسد مجنح كان يخاطب القديس الغارق في البحيرات.

وتتكون البندقية من 120 جزيرة تقع على بحيرة كبيرة بين البر الرئيسي والبحر.

البندقية في العصور الوسطى

منذ القرون الأولى، كان المجتمع الفينيسي نشطًا في التجارة بمشاركة مباشرة من أهم عائلات الدوقية، وبهذه الطريقة شُكلت طبقة حاكمة غنية كبيرة وقادرة على الحد بشدة من سلطة الدوق منذ البداية.

وتُعد حيوية هذه العائلات الفينيسية أحد الأسباب التي دفعت المدينة إلى تطوير وعيها الوطني تدريجيًا في القرون الأولى، وبالفعل مع نهاية القرن التاسع،  بدأ انتخاب الدوق من قِبل عائلات البندقية.

ولأسباب أمنية، بدأت  البندقية في القرنين التاسع والعاشر تتشكل على جزر ريالتين، بما في ذلك ريالتو الحالية، وفي وقت مبكر من عام 828، أحضر تاجران بقايا آثار سان ماركو، وبعد بضع سنوات، بدأ بناء بازيليك سان ماركو، وبمرور الوقت فقط، عرف المجتمع الدولي جمهورية البندقية.

علاقة مميزة بين جمهورية البندقية وبيزنطة

ضمنت العلاقة المثمرة مع بيزنطة تطوير الحركة البحرية والتجارية في البندقية، وفي الواقع، كان لسفير البندقية امتيازات حصرية في بيزنطة، أيضًا انتشرت العلاقات التجارية مع المسلمين على مر السنين، وحتى بعد المحظورات التي أصدرها مجلس لاتران في عام 1261م.

ومع تجارة الحرير والتوابل في القسطنطينية (بيزنطة القديمة) والإسكندرية، شهدت القوة الاقتصادية للبندقية انتعاشًا كبيرًا بفضل تجارة الأسماك والمنسوجات والخشب والحديد المستخرج من جبال الألب. وكان أيضًا لتجارة الرقيق نصيب كبير في الاقتصاد الفينيسي في ذلك الوقت.

وفي عام 1204، ومع الحملة الصليبية الرابعة، بدأ ما يمكن أن نطلق عليه العصر الذهبي لمدينة البندقية، حيث غزت سفن البندقية، بقيادة دوجي إنريكو داندولو، القسطنطينية وقُسمت الإمبراطورية اليونانية بين البندقية والحلفاء، واحتلت العديد من المناطق التجارية في دول مثل سوريا وفلسطين وكريت وقبرص، ووصلت البندقية إلى ذروتها في زمن ماركو بولو، أحد أشهر سكان البندقية في التاريخ.

وركزت سفن البندقية التي تسيطر على البحر الأبيض المتوسط مصالحها في المحيط الأطلسي، مهددين بقية أوروبا، ووصلوا إلى ساوثهامبتون وبروج ولندن، حيث أنشأوا مستعمراتهم هناك.

وكان تمثيل هذا العصر الذهبي هو سك الدوقية في عام 1284، والتي كانت على مدى ثلاثة قرون ، إلى جانب الفلورين، واحدة من أهم العملات المعدنية في العالم.

جمهورية البندقية في أقصى توسعها

 في بداية القرن الرابع عشر، كان لدى جمهورية البندقية مصالح تجارية وسياسية واسعة جدًا، وبالتالي وجدت نفسها متورطة في سلسلة من الاشتباكات في أنحاء كثيرة من إيطاليا والبحر الأبيض المتوسط، ومن خلال التحالف مع بادوفا وفلورنسا وميلانو، منعت البندقية  عائلة "سكاليغيري"  في فيرونا من تعزيز سيادتها الإقليمية تجاه مدينة كيودجا والتدخل بحصون البندقية "ستاتو دا تيرا".

وبهذه المناسبة، رسخت البندقية سيادتها من خلال الترتيب الإداري لإقليم تريفيزو عام 1339، وبخلاف دورها البحري التقليدي ولضمان الإمدادات الغذائية، سيطرت على موقع دفاعي لحدودها البرية.

ومن جهة أخرى، أعيد إشعال الصراع مع جنوة عدة مرات دون إيجاد حل نهائي حتى جاء سلام تورين عام 1381م، والذي أجاز التراجع الأول لنفوذ جنوة على شرق البحر الأبيض المتوسط، باستثناء قبرص وفاماغوستا، وترك مجال طرق التجارة البحرية إلى البندقية.

ولتحقيق هذه النتيجة، كان من الضروري أن تتوصل سيرينيسيما إلى اتفاقيات على الفور مع قوى مخيفة جديدة كانت تواجه البحر الأدرياتيكي، وهي الإمبراطورية العثمانية، من خلال دمج بطريركية أكويليا عام 1420 في نطاقاتها، وهي مركز للتجارة بين ألمانيا وشبه جزيرة إستريا، وتضمين معظم أراضيها وهي فينيتو وفريولي فينيتسيا جوليا وإستريا، وكانت البندقية في هذه المرحلة في ذروة نجاحها وقوتها.

وفي القرن الخامس عشر، كانت البندقية مركز التجارة العالمية وأكبر مدينة ساحلية في العالم، حيث بلغ عدد سكانها أكثر من 200.000 نسمة.

بداية الانحدار

في عهد دوجي فرانشيسكو فوسكاري، شنت البندقية سلسلة من الحروب في إيطاليا، ولا سيما ضد ميلانو، كان الهدف منها احتلال الأراضي والتوسع أكثر، ولكن النتيجة الرئيسية كانت أن البندقية ظلت متورطة في مستنقع معقد من التوازن السياسي والصراعات التي هيمنت على شبه الجزيرة، ويذكر أنه بعد سلام لودي، حاولت الدول الإيطالية إقامة توازن في شبه الجزيرة، ولكن سرعان ما عادت للخضوع لتدخلات أجنبية.

وفي غضون ذلك، كان العثمانيون يستعدون لغزو الإمبراطورية البيزنطية بشكل نهائي، وهم الذين قهروا تسالونيكي عام 1430، ثم القسطنطينية في عام 1453، ومع اختفاء الإمبراطورية البيزنطية المنحلة، كان على البندقية تعزيز دفاعها عن أراضيها الشرقية، لكنها فشلت، في منع غزو يوبويا في عام 1470، وفي عام 1479، توصل الفينيسيون أخيرًا إلى اتفاق سلام مع الإمبراطورية العثمانية، والتي أصبحت قوتها البحرية في ذلك الوقت حقيقة لا جدال فيها.

وعند هذه النقطة، عادت البندقية إلى البر الرئيسي ودخلت في صراع مع مقاطعة فيرارا وقهرت مقاطعة بوليسين في عام 1484، ومنذ هذه اللحظة، شعرت الدول الإيطالية مرة أخرى بالحاجة إلى معارضة التوسع الإقليمي لمدينة البندقية، وفي عام 1509، هزمت عصبة كامبراي، المكونة من إسبانيا وفرنسا وألمانيا والبابوية والمجر وسافوي وفيرارا، البندقية في أغناديلو شرق ميلانو.

وكانت هزيمة تاريخية، لأنه ابتداءً من عام 1510 توقف توسع سيرينيسيما نهائيًا، وكان كل سعي الفينيسيين هو حماية مصالح الجمهورية وضمان بقائها فقط دون توسعات، ولكن ظلت جمهورية البندقية في حالة من التدهور حتى نهاية القرن الثامن عشر.

وعانت البندقية أيضًا اقتصاديًا، حيث أدى اكتشاف طرق جديدة إلى الشرق وأراضي جديدة في الغرب إلى الحد بشكل كبير من الدور التجاري لسيرينيسيما، والتي استمرت مع ذلك في التجارة مع الإمبراطورية العثمانية أيضًا.

وخلال القرن السادس عشر، حاولت سيرينيسيما الحفاظ على موقعها في مواجهة تقدم إمبراطوريتين قويتين، إمبراطورية هابسبورغ من الغرب (حكم آل هابسبورغ دوقية ميلانو من عام 1535) والإمبراطورية العثمانية من الشرق، وبعد هزيمة بريفيزا عام 1538، جاء انتصار ليبانتو السريع عام 1571، والذي تلاه خسارة نهائية لجزيرة قبرص المعترف بها على أنها ملكية عثمانية منذ عام 1572.

سقوط جمهورية البندقية

بين عامي 1605 و1606م، ضرب بول الخامس دولة البندقية بأكملها بعد تربعه على العرش البابوي، وفي ذلك الوقت قدم باولو ساربي (الذي ينتمي إلى رتبة الرهبانية) الأساس النظري للدفاع عن السياسة الفينيسية، متنافسًا بشكل كبير مع السلطة الزمنية للبابوية فيما يتعلق بالدول ذات السيادة دون التشكيك في شرعيتها.

وبين عامي 1645 و1649، ومع حرب كانديا، تحدت جمهورية البندقية الإمبراطورية العثمانية للمرة الأخيرة على الجبهة البحرية، وهي في حالة تدهور، وخسرت نهائيًا جزيرة كريت، أخر حيازة ذات أهمية في بحر إيجه، لتصبح دالماتيا وبعض الممتلكات اليونانية فقط تحت سيطرة البندقية، من خلال التحالف مع النمسا، وتمكنت جمهورية البندقية من التوسع بشكل معتدل بعد تحرير البيلوبونيز من العثمانيين والسيطرة عليها في عام 1699.

ومع ذلك، وفي عام 1718، أُعيدت موريا إلى الإمبراطورية العثمانية، وهكذا تضاءل نشاط البندقية في البحر الأبيض المتوسط ​​بشكل نهائي، باستثناء بعض الومضات، محاولة للهجوم ضد القراصنة الجزائريين والتونسيين بقيادة أنجيلو إيمو.

وخلال السنوات الأخيرة من وجودها، ظلت البندقية معزولة نسبيًا عن عصر التنوير الذي ازدهر في أوروبا، وإن كان ذلك مع محاولات الإصلاح من حين لآخر،  ومع عزم نابليون تدمير الأوليغارشية الفينيسية، جاءت النهاية، ففي 12 مايو 1797، هُزمت جمهورية البندقية المعزولة وعُزل أخر دوق، وهو لودوفيكو مانين، لتصبح جمهورية البندقية جزءًا من الماضي.