تركت لنا الحضارة الإنسانية إرثًا هائلًا من التاريخ الحضاري المتمثل في المعارف والفنون والعلم والبناء، وقد تخطى هذا الإرث حدود المنطق والإبداع بمقاييس التاريخ البشري في ذلك الوقت، وعجزت ألسنة العلماء في مختلف المجالات عن وصفه، مع امتداده عبر العصور وتخطيه حدود التاريخ والجغرافيا، ليكون شاهدًا على أن الإنسان كان جديرًا بأن تُخّول له قيادة الأرض واكتشاف كنوزها.
ورغم كل السلبيات الحضارية القديمة والحديثة، حظي عالمنا بالكثير من الأسرار والومضات الحضارية، أطلق عليها التراث، وبدأ العلماء من المهتمين بدراسة الحضارات القديمة مهمة جمع هذا التراث والحفاظ عليه من الاندثار والتمزق.
معنى كلمة تراث
يرجع أصل كلمة تراث إلى اللغة العربية، وارتبطت ارتباطًا مباشرًا بالتراث العربي والإسلامي، حيث استخدمها العرب قديمًا بمعنى ما يتركه المتوفى لأهله من أشياء مادية وغير مادية، وذكرت كلمة التراث في القرآن الكريم بلفظها دون اشتقاق، قال الله تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا}، ولقد كان القرآن الكريم إعجازيًا في هذا الوصف حيث وصفها بمعناها الحقيقي الذي أجمع عليه علماء الإنسان في التاريخ الحديث، وهو كل ما له قيمة إنسانية أو مادية، محذرًا من تبديد التراث وضياعه، بقوله تعالي "وتأكلون" بمعنى "تضيعون" كل ما له قيمة إنسانية وليس المال فحسب، ثم انتقلت إلى اللغات الأجنبية الأخرى، وتطورت مع تطور الاهتمام بالحفاظ على القيم المتبقية من الأجيال السابقة؛ فنشأت في القرن العشرين مصطلحات عديدة لكلمة التراث مثل تراث الأمة والتراث الإنساني والتراث الديني وغيرها من أنواع التراث المختلفة، وعلى ذلك يمكننا تعريف التراث بعدة تعريفات وكما جاء في المعجم العربي:
- هو كل ما يخلفه السَّلف من آثار علميّة وفنية وأدبيّة، سواء مادِّيَّة كالكتب والآثار وغيرها، أم معنوية مثل الأنماط والعادات والتقاليد.
- هو الأثر الذي خلَّفته الحضارات أو تركته الأجيال السابقة وله قيمته الوطنية أو العالمية.
أنواع التراث
يُعدّ التراث مفهومًا شاملًا لكل ما تبقى من الحضارات القديمة التي ساهمت بشكل كبير في إضافة قيمة إنسانية مادية أو غير مادية للجيل الذي يليه، ولم تشغل قضية التراث دولة بعينها أو مجتمعًا واحدًا، بل أصبح الاهتمام بها عالميًا، جاء ذلك من خلال إنشاء العديد من المنظمات العالمية الفردية والأممية، التي أصبح شغلها الشاغل هو الحفاظ على ذلك التراث وتنميته وتخليده لأكبر وقت ممكن ليكون شاهدًا لأجيال جديدة.
ولم يكن الحفاظ على تلك الثروة الكبيرة بالشئ الهين، بل تطلب جهودًا عالمية وتحت إشراف منظمات مجتمعية غير حكومية، بشرط أن لا تكون مسيسة تحت سلطة معينة، وتختلف أنواع التراث من حيث قيمته المادية ومن حيث طرق الاهتمام به، وكذلك من حيث عالميته، فأما من حيث قيمته فهناك:
- التراث المادي: والمتمثل في بعض الكنوز المعدنية مثل كنوز توت عنخ آمون والعملات الذهبية الرومانية، وكذلك ما تم اكتشافه مؤخرًا في شرق ألمانيا حيث تم العثور على أربعين عملة ذهبية من الذهب الخالص.
- التراث غير المادي: ويندرج تحت هذا جميع أنواع التراث منها التراث الثقافي والديني والفني والمعماري، وكذلك عادات الشعوب وتقاليدها. وقد تأسست لجنة حماية التراث الثقافي على مستوى العالم، بهدف حماية المورثات الثقافية بمختلف أنواعها.
- التراث الطبيعي: من أهم أنواع التراث، حيث يشمل المعالم الطبيعية والمحميات، بالإضافة إلى التشكيلات الجيولوجية الأرضية، التي وجدت بشكل طبيعي دون أدنى تدخل من جانب الإنسان.
أما من حيث طرق الاهتمام به والمحافظة عليه، فهناك نوعين من التراث :
- تراث وطني وهو كل تراث مادي وغير مادي لم يقيد بأنه تراث عالمي، ويكون محل اهتمام الشعوب والحكومات المركزية داخل الدول.
- تراث عالمي وهو ما ينطبق عليه معايير وتقدير مواقع التراث العالمي! فما هو التراث العالمي؟
ما هو التراث العالمي؟
في عام 1921 وبعد الانحسار الحضاري الهائل وتفكك الكثير من الإمبراطوريات والكيانات الكبرى، فكر العالم أن يتحد في محاولة لجمع شتات الأوطان المتمزقة، وأن يجمع كل شعوب العالم تحت كيان واحد سمى بعصبة الأمم، ثم انبثقت لجنة علمية للحفاظ على التراث العالمي، أطلق عليها اسم اللجنة الدولية للتعاون الفكري، وشهدت في عضويتها علماء بارزين منهم على سبيل المثال، ألبرت أينشتاين وماري كوري، وكانت تلك اللجنة هي النواة الأولى لإطلاق منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (United Nations Educational, Scientific and Cultural Organization) (اليونسكو) فما هي منظمة اليونسكو وما علاقتها بالتراث العالمي؟
- تضم المنظمة 195 دولة دولة حتى الآن.
- تمتلك أكثر من 50 مكتبًا ومقرًا حول العالم.
- للمنظمة خمسة برامج أساسية هي التربية والتعليم والعلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية والاجتماعية والثقافة والاتصالات والإعلام.
- تدعم اليونسكو العديد من المشاريع مثل محوالأمية والتدريب التقني وبرامج تأهيل المعلمين وتدريبهم وبرامج العلوم العالمية والمشاريع الثقافية والتاريخية.
- ساهمت منظمة اليونسكو بشكل كبير في الحفاظ على التراث العالمي حين أقرت أهم الاتفاقيات الدولية وهي اتفاقية الأمم المتحدة للحفاظ على التراث العالمي عام 1972.
اتفاقية التراث العالمي
بقدر ما صنعه العلم الحضاري للبشرية عبر سنوات، بقدر ما هدمه الساسة في لحظات، فمنذ فجر التاريخ البشري قامت الحضارات على كاهل أهل العلم والفن، بينما قادها الحكام والملوك إلى السقوط والدمار بسبب الأطماع والرغبة في التوسع وحب الذات مثل ما حدث مع مملكة المغول والتي قضت على جزء لا يستهان به من التراث العالمي وخاصة العربي، وربما كانت بعض الأهداف مقبولة، مثل التوسع العمراني والبحث عن المزيد من الحلول الاقتصادية لنهضة الشعوب الحديثة، وهذا بالفعل ما حدث حين قررت الإدارة المصرية بناء السد العالي، وما صاحبه من حدث مهم كان سببًا مباشرًا في إنشاء اتفاقية التراث العالمي، حيث شعر العالم بخطر كبير يهدد أعظم تراث عالمي وحضاري في مصر وهو معبد أبو سمبل الذي كان مهددًا بالغرق، وفي عملية صعبة ومعقدة لجأت مصر إلى اليونسكو عام 1959م، لتقوم ببناء أكبر عملية هندسية وأثرية متعددة الجنسيات لإنقاذ معبد أبو سمبل شاركت فيها دول مثل ألمانيا والسويد وفرنسا وإيطاليا، وقد اعتمدت الخطة الآتية:
- نقل المعبد الضخم بتماثيله الهائلة إلى أرض جافة بعيدة على ارتفاع 65 مترًا فوق سطح النهر، وإلى 200 متر إلى الجانب داخل الجبل بعيدًا عن النهر.
- تم تفكيك القطع الأثرية على شكل مكعبات موضوعة على تلة جبلية ضخمة.
- تمت إعادة تركيب القطع الأثرية على تلة صناعية بمنتهى الدقة.
- تكلفت عملية نقل معبد أبو سمبل أكثر من 35 مليون دولار.
- وجمعت التبرعات من مصادر دولية عديدة في حملة تكفلت بها منظمة اليونسكو
- استجابت 51 دولة من دول العالم للمساهمة في إنقاذ هذا التراث العالمي الفريد.
- أدى نجاح تلك العملية الهندسية إلى التسريع في حملات أخرى لحماية معظم آثار الحضارة العالمية، مثل إنقاذ البندقية وبحيراتها (إيطاليا) والأطلال الأثرية في موهنجودارو (باكستان) وترميم مجمعات معبد بوروبودور (إندونيسيا).
- نتيجة لذلك، بدأت اليونسكو، بمساعدة المجلس الدولي للآثار والمواقع، في إعداد خطة كان هدفها هو العمل على حماية المعالم الطبيعية والأثرية البارزة للأجيال القادمة
- اعتمد المؤتمر العام لليونسكو في عام 1972 لجنة عالمية والذي تم تأسيسها على أساس أن بعض الأماكن على الأرض لها "قيمة عالمية استثنائية" وفقًا لمعايير محددة، وبالتالي يجب أن تشكل جزءً من التراث المشترك للبشرية وهو ما يطلق عليه التراث العالمي.
- تلتزم 193 دولة (دولة طرف) بالاتفاقية وهي جزء من مجتمع دولي متحد في مهمة مشتركة لتحديد التراث الطبيعي والثقافي الأكثر تميزًا في عالمنا وحمايته.
إن التراث العالمي جزء لا يتجزأ من مستقبل الأمم، كما كان الجزء الأصيل في تاريخها، وتعد أهمية الحفاظ على التراث وإحيائه مهمة استثنائية للغاية حيث تتجاوز الحدود الدولية والتعددية المذهبية والفكرية، لينصهر الجميع في الحفاظ على تلك القيمة العالمية المتميزة لتبقى ذات أهمية مشتركة للأجيال الحالية والمقبلة.