امتد التحضر الإسلامي ليشمل جميع نواحي الحياة من عمارة وفنون واقتصاد وعلوم وغيرها الكثير، ولم يتوقف الإبداع والابتكار لدى المسلمين عند حد معين، بل امتدت جهودهم إلى آفاق واسعة للغاية، ونظرًا لأنّ التعليم هو أساس كل شيء بنوا دور العلم التي عُرفت فيما بعد باسم المدارس، والتي تفننوا في بنائها والعناية بها.
نبذة تاريخية
تتميز العمارة الإسلامية بتنوع أشكالها ووحدة مبادئها، وكان للدين الإسلامي دور حيوي أثّر تأثيرًا كبيرًا في إبداع هذه العمارة ومنحها الهوية الإسلامية، فسعى المعماريون المسلمون لإنتاج مبانٍ تتوافق مع الدين الإسلامي وتتناسب مع البيئة المحيطة، وكذلك عمارة البلاد التي دخلتها الفتوحات الإسلامية، وتعد المدارس من أهم مباني العمارة الإسلامية، فأماكن التعليم هي المكان الأول لتلقين المسلمين مبادئ دينهم وتعاليمه، وكانت في البداية تُقام في المساجد، ثمّ تطورت فكرة دور التعليم ليتم تخصيص مباني خاصة لها، وشهدت هذه المباني ازدهار واتساع بمرور الوقت، والتي عُرفت في وقت لاحق باسم المدارس.
تطور المدارس في العمارة الإسلامية
انتشرت فكرة التعليم في المدارس على نطاق واسع للغاية بعد أن كانت تقتصر على التعليم في المساجد فقط، وبحلول القرن الثامن أصبح في قرطبة مئات المدارس، وقبل نهاية القرن التاسع عشر أصبح في كل مسجد تقريبًا مدرسة ابتدائية تابعة له لتعليم الذكور والإناث، الذين كانوا ينضمون إلى التعليم في المدرسة عند بلوغهم سن السادسة من العمر، وكان التعليم مجاني أو بكلفة رمزية جدًا، وبحلول القرن العاشر تطورت المدارس، وحدث هذا بدايةً في بلاد فارس، وفي عام 1066م أسس السلاجقة "المدرسة النظامية"، نسبةً إلى اسم مؤسسها الوزير نظام الملك البغدادي، وكانت أول مدرسة مستقلة في مبناها، واتسعت رقعة إنشاء المدارس وتطورت، فأصبح لكل مدرسة باحة وعدة غرف تُستخدم للتدريس أو لعقد الاجتماعات أو للصلاة، وغيرها من المرافق العامة اللازمة، وأصبح المعلمون موظفون رسميون في المدارس، ويتلقون رواتب شهرية أو نحو ذلك، وبقيت المدارس تتطور بالتدريج حتى حلول القرن الخامس عشر، والذي أحدث فيه العثمانيون ثورة في عمارة المدارس، فأقاموا في المدن مجمعات تعليمية مشابهة لتلك التي بنوها في أدرنة وبورصة في تركيا، وكانوا يُطلقون عليها اسم كليّة، والتي كانت تحتوي على مدرسة وجامعة ومستشفى ومسجد وقاعة طعام ومطبخ، وكان التعليم متاح للجميع، ومن أبرز الأمثلة على المجمعات التعليمية كلية الفاتح التي كانت تضم ست عشرة مدرسة للدين والعلوم.
أنواع مدارس العمارة الإسلامية
كانت مدارس العالم الإسلامي تتنوع من حيث التخصصات التي تُدرّس فيها، وانقسمت وفقًا لهذا إلى ما يلي:
المدارس الفقهية
هي المدارس التي تُبنى بهدف دراسة الفقه وأصوله، وهي أكثر المدارس انتشارًا وفق المصادر الإسلامية، وتنقسم هذه المدارس إلى مدارس أحادية تقوم بتدريس مذهب واحد مثل مدرسة أبي حنيفة في بغداد التي كانت تُدرس الفقه الحنفي، والنوع الثاني هي المدارس الثنائية التي تجمع بين مذهبين فقهيين في تدريسها، مثل المدرسة الشهابية بالمدينة التي جمعت بين المذهب الشافعي والمذهب الحنبلي، أما النوع الثالث فهي المدارس الثلاثية والتي تجمع في تدريسها بين ثلاثة مذاهب، مثل المدرسة الفخرية بدمشق، والتي كانت تعطي دروس للفقه الحنبلي والمالكي والحنفي، بينما كان النوع الرابع هو المدارس الرباعية التي تُدرس الفقه على المذاهب الأربعة، من أمثلتها المدرسة المستنصرية في بغداد.
المدارس القرآنية أو دور القرآن
كان المسلمون في البداية يتعلمون القرآن الكريم في المساجد، واستمر ذلك حتى حلول القرن الرابع، حيث بدأ إنشاء دور خاصة لتدارس القرآن، مثل دار الرشائية التي أسسها في دمشق المقرئ رشأ بن نظيف الدمشقي، وكانت هذه الدور مستقلة عن المساجد.
المدارس الحديثية
وتُسمى كذلك دور الحديث، وهي من إبداع نور الدين زنكي، حيث يرجع له الفضل في بناء أول مدرسة حديثية، والتي خصص لها عدة أوقاف، ومن بعده أسس الملك الكامل ناصر الدين بن الملك في القاهرة المدرسة الكاملية، التي تُعدّ ثاني مدرسة لتعليم الأحاديث، وكانت المدارس الحديثية تشترك أحيانًا مع دور القرآن، فتُبنى مدارس مشتركة للحديث والقرآن معًا، ولكنها منفصلة عن المدارس الفقهية.
المدارس الطبية
كان الطب في البداية يُدرس في المساجد، ثم انتقل تدريسه إلى البيمارستانات، التي يعد الوليد بن عبد الملك أول من أنشاها في عام 588م، ثمّ أصبح يتوفر فيها الأدوات الطبية والأدوية، وشُيّدت مدارس تعليم الطب في كثير من الأحيان بجانب البيمارستانات، حيث يتنقل المعلم بين إعطاء الدروس التلقينية والتطبيقية بين المدرسة والبيمارستان لتسهيل الأمر عليه، ومن الأمثلة على ذلك المدرسة المستنصرية التي أنشأها الخليفة المستنصر لتعليم الطب وعلوم الصيدلة، وهذا ما فعله المنصور قلاوون في القاهرة، حيث شيّد البيمارستان المنصوري الكبير ووضع في داخله مدرسة جمعت بين تدريس العلوم الشرعية والعلوم الطبية.
التسلسل الزمني لبعض لمدارس الإسلامية
من غير الممكن حصر عدد المدارس الإسلامية منذ بداية تأسيسها مرورًا بتطورها وانتشارها، ولكن فيما يلي ذكر لبعض المدارس التي تأسست وفقًا للتسلسل الزمني لظهورها:
- مدرسة الإمام أبي حفص الفقيه البخاري أنشأت في سنة (217هـ).
- مدرسة ابن حيان في بداية القرن الرابع للهجرة.
- مدرسة أبي الوليد حسان بن أحمد النيسابوري الشافعي ( 34هـ) ويذكر أنه كان كثير التواجد فيها.
- مدرسة محمد بن عبد الله بن حماد ( 388هـ) الذي لازم مدرسته ومسجده حتى وفاته.
- المدرسة الصادرية التي أنشأها الأمير شجاع الدولة صادر بن عبد الله سنة 391هـ في مدينة دمشق.
- المدرسة البيهقية في نيسابور، والتي أنشئت قبل أن يولد نظام الملك (ولد سنة 408هـ)، فتكون هذه المدرسة أنشئت قبل هذا التاريخ.
- مدرسة أبي بكر البستي (429هـ) الذي بناها لأهل العلم في نيسابور على باب داره ووقف جزء من ماله عليها وكان أبي بكر البستي من كبار رجال العلم في البلاد.
- مدرسة الإمام أبي حنيفة، التي شيدها أبو سعد ابن المستوفي وافتُتحت قبل افتتاح المدرسة النظامية بخمسة أشهر.
- المدرسة السعدية الذي بناها النصر بن سبكتكين الذي كان واليًا على نيسابور، حيث اهتم أمراء الغزنويين بتشييد المدارس ورعايتها.