إنسان هايدلبيرغ هو نوع منقرض من الإنسان البدائي الذي كان يعيش في العصر الجليدي الأوسط، والذي ينحدر من جنس الهومو أو الجنس البشراني –جنس ينتمي لفصيلة البشرانيات الذي يتفرع منه الإنسان الحديث أو الإنسان العاقل، ولم يتبقى من هذا الجنس الآن سوى الإنسان العاقل المعاصر، أما باقي الأنواع انقرضت– ومن المرجح أن إنسان هايدلبيرغ هو الأصل المباشر لإنسان نياندرتال في أوروبا والإنسان العاقل، ويعود تاريخ بقاياه إلى حوالي 600 أو 400 ألف سنة، وأطلق عليه هذا الاسم نسبة إلى جامعة هايدلبيرغ، واكتشفت أولى أحافير إنسان هايدلبيرغ في جنوب ألمانيا عام 1907م، ثم اكتشفت له أحافير أخرى في كل من فرنسا فاليونان فإيطاليا، حيث اكتشف عالم الأنثروبولوجيا الألماني أوتو شوتنساك عام 1907م عظام الفك السفلي لإنسان هايدلبيرغ.
تتميز جماجم هذا النوع باشتراكها في بعض السمات مع الإنسان المنتصب والإنسان العاقل الحديث من الناحية التشريحية، وكانت دماغ إنسان هايدلبيرغ كبيرة مثلها مثل دماغ الإنسان العاقل، وتنتشر رفات هايدلبيرغ في كل أنحاء شرق وجنوب إفريقيا، بما في ذلك إثيوبيا وناميبيا وجنوب إفريقيا، وكذلك في أوروبا، بما في ذلك إنجلترا وفرنسا وألمانيا واليونان والمجر وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا. ولا يعرف العلماء حتى الآن العلاقة الدقيقة بين إنسان هايدلبيرغ وبين كل أسلاف البشر السابقين والإنسان العاقل، ولا مع السلالات اللاحقة مثل إنسان النياندرتال والدينيسوفان والبشر المعاصرين.
العلاقة بين الإنسان العاقل وإنسان هايدلبيرغ
اقترح بعض العلماء أن الإنسان العاقل هو فرع مشتق من إنسان هايدلبيرغ عبر إنسان روديسيا الذي وجد في شمال وشرق إفريقيا منذ حوالي 400000 سنة مضت، إلا أن تحديد التاريخ الدقيق للعديد من الحفريات في نوع زمني معين أمر صعب للغاية، وينتج عنه الكثير من الخلافات في الرأي بين العلماء، وذلك بسبب عدم وجود خطوط فاصلة مقبولة عالميًا بين الإنسان المنتصب وإنسان هايدلبيرغ وإنسان روديسيا والنياندرتال. من جانب آخر، ليس من المؤكد أن إنسان هايدلبيرغ هو سلف للإنسان العاقل، لأن الفجوة الأحفورية في إفريقيا الممتدة بين 260000 و400000 سنة مضت تخفي التحول الذي يفترضه العلماء من إنسان روديسيا إلى الإنسان العاقل.
ويشير التحليل الجيني للأحافير التي وجدت في كهف سيما دي لوس هويسوس في 2016م أن إنسان هايدلبيرغ يجب أن يدرج في سلالة النيانتدرتال، مثله مثل إنسان ما قبل النياندرتال أو إنسان النياندرتال القديم أو إنسان النياندرتال الأولي. ويمكن أن يقدر زمن الانفصال بين إنسان النياندرتال والسلالات الحديثة حتى ظهور إنسان هايدلبيرغ إلى حوالي 600000 إلى 800000 سنة، وهو الوقت التقريبي لاختفاء إنسان السلف أو الهومو أنتيسسور، ومن جانب آخر فإن التفريق بين إنسان هايدلبيرغ والإنسان المنتصب غير واضح بشكل تام، لذا من الناحية العملية بحسب الدلالات لا يوجد دليل مباشر يربط بين إنسان هايدلبيرغ والإنسان المعاصر.
صفات إنسان هايدلبيرغ وسلوكه
يملك إنسان هايدلبيرغ جمجمة أكبر قليلًا من الجمجمة البشرية، لكن حجم مخ إنسان هايدلبيرغ كان يتراوح بين 1100 إلى 1400 سم مكعب، بينما يبلغ متوسط حجم مخ الإنسان الحالي البالغ 1350 سم مكعب تقريبًا، ويبلغ متوسط طول إنسان هايدلبيرغ حوالي 1.8 متر، إذ بلغ متوسط طول الذكور نحو 1,75 متر ووزنهم 62 كجم تقريبًا، أما طول الإناث فبلغ في المتوسط 1.57 متر ووزنهم حوالي 51 كجم، ويقول لي بيرغر من جامعة ويتواترسراند إن بقايا عظم ساق وفخذ إنسان هايدلبيرغ الذي عاش في الفترة بين 350000 و4000000 سنة مضت تشير إلى أن طوله كان يزيد عن 2.13 متر. وكان لإنسان هايدلبيرغ تكوين عضلي أكبر إلى حد ما من تكوين الإنسان الموجود الآن.
وتقول بعض الآراء النظرية إن إنسان هايدلبيرغ ربما يكون أول نوع بشري يقوم بدفن موتاه، إلا أن هذا الرأي محل جدل كبير بين العلماء، ويظن البعض أن إنسان هايدلبيرغ مثله مثل النياندرتال يتمتع بقدرة بدائية على استخدام اللغة. ولم يجد الباحثون أي مصنوعات أو أعمال فنية صنعها إنسان هايدلبيرغ حتى الآن، لكن وجد العلماء في حفريات جنوب فرنسا "المغرة"، التي كانت تستخدم في الصبغ والتلوين. وتدل بعض الآثار التي وجدها المكتشفون لعظام الغزلان والأفيال والخيول التي وجدت بالقرب من مستعمرات إنسان الهايدلبيرغ إلى أنها ذبحت وقطعت، وأن بعضها كان يصل وزنه إلى 700 كجم أو أكثر، مع العلم أن حيوانات مثل الماموث والأسد الأوروبي كانت منتشرة في القارة الأوروبية خلال تلك الحقبة. ووجد المكتشفون والباحثون كذلك رماح خشبية تعود إلى ما يزيد عن 400 ألف عام، ويعتقدون أنها صنعت بواسطة الإنسان المنتصب أو إنسان هايدلبيرغ، وفي العموم ترتبط أسلحة الرماية ارتباط مباشر مع الإنسان العاقل، وهو أمر يتعلق في الغالب بالاعتماد على أساليب الصيد.
كيف نجا إنسان هايدلبيرغ؟
يقال إن إنسان هايدلبيرغ كان قادر على استخدام النار والتحكم فيها عن طريق بناء المواقد المبكرة قبل 790 ألف عام مضت، وإنهم ربما كانوا يجتمعون حول هذه المواقد للتواصل الاجتماعي مع بعضهم وإيجاد الراحة والدفء ومشاركة الطعام والمعلومات، وكذلك من أجل العثور على الأمان معًا كمجموعة من الحيوانات المفترسة. ويقال أيضًا إن إنسان هايدلبيرغ كان أول صياد للحيوانات والطرائد الكبيرة، إذ تم العثور على بقايا الغزلان البرية والخيول والفيلة وفرس النهر ووحيد القرن بالقرب من مواقع حفريات إنسان هايدلبيرغ، ويقال إن هذه الحيوانات تعرضت للذبح، ووجد الباحثون أيضًا رماح خشبية وأدوات حجرية يزيد عمرها عن 4000000 عام مع بقايا لأكثر من 10 خيول مذبوحة.