كانت الصومال وجيبوتي جزءً مما يُعرف باسم الصومال الكبير وكانت دولة جيبوتي تُعرف قديمًا باسم إقليم العفر والعيسى الفرنسي (بالإنجليزية: The French Territory of the Afars and the Issas)، وذلك بين عامي 1967 و1977 وقت الاستعمار عندما كانت فرنسا تحتل أجزاء كبيرة من إفريقيا، وكانت تُعرف أيضًا باسم أرض الصومال الفرنسي، ويضمّ الصومال الكبير العديد من القبائل والجماعات العرقية ومن بينها العفر والعيسى، فمن هم العفر والعيسى وما قصة الصراع بينهم؟
نبذة تاريخية عن الصومال الكبير
كان سلاطين الصومال والعفر يحكمون أرض أوبوك الواقعة شمال خليج تاجورة في الفترة بين 1862 و1894، وذلك بناءً على معاهدات مختلفة وقّعوها مع فرنسا بين عامي 1883 و1887 لتثبيت أقدامهم في هذه الأرض. وفي عام 1894، أسس ليونس لاغارد، الحاكم الفرنسي في أرض الصومال، إدارة فرنسية دائمة في مدينة جيبوتي أطلق عليها اسم "أرض الصومال الفرنسية"، وهو الاسم الذي استمرّ حتى عام 1967.
وفي عام 1958 وبينما كانت الصومال على وشك الحصول على استقلالها عام 1960، أُجري استفتاء حول الانضمام إلى جمهورية الصومال الوليدة أو البقاء تحت الحكم الفرنسي، وذهبت نتائج الاستفتاء لصالح الحكم الفرنسي نظرًا لأن جماعة العفر ذات الأغلبية العرقية والأوربيين المقيمين في الإقليم صوتوا لصالح الحكم الفرنسي، وكانت هناك مزاعم حول تزوير نتائج الاستفتاء لأن الكثيرين صوتوا لصالح الانضمام إلى الصومال ومنهم محمود الحربي، نائب رئيس الحكومة، الذي توفي عام 1960 مع العديد من رفقائه في حادث تحطم طائرة في ظروف غامضة في أثناء رحلة العودة من الصين إلى الصومال.
وفي عام 1966، رفضت فرنسا توصية الأمم المتحدة بمنح أرض الصومال الفرنسية استقلالها، وفي أغسطس من العام نفسه، اندلعت مظاهرات في الإقليم رفضًا لزيارة الرئيس الفرنسي آنذاك، الجنرال شارل ديجول، مما حدا به إلى إجراء استفتاء آخر ردًا على تلك المظاهرات والاحتجاجات.
وفي 19 مارس 1967، أُجري استفتاء عام لتحديد مصير الإقليم وجاءت النتائج الأولية لصالح استمرار السيادة الفرنسية، ويُذكر أن التصويت تمّ على أسس عرقية، حيث صوّت الصوماليون بشكلٍ عام لصالح الاستقلال وذلك للوحدة مع جمهورية الصومال الوليدة، بينما اختار العفر الحكم الفرنسي؛ وتجدر الإشارة إلى وجود تقارير عن تزوير السلطات الفرنسية لنتائج الاستفتاء حيث قامت بترحيل نحو 10000 صومالي بحجة عدم امتلاكهم لبطاقات هوية سارية.
وبالرغم من أن الإقليم كان يسكنه في ذلك الوقت 58240 من الصوماليين و48270 من العفر، تشير الأرقام أن 14689 من الصوماليين سُمح لهم بالتسجيل مقابل 22004 من العفر. واتهم ممثلو الصومال السلطات الفرنسية بجلب الآلاف من بدو العفر الذين يسكنون إثيوبيا للتصويت لصالحهم، لكن السلطات الفرنسية نفت ذلك الأمر، مشيرة إلى أن عدد العفر فاق عدد الصوماليين في قوائم التصويت.
وبالطبع، جاءت نتائج الاستفتاء لصالح السيادة الفرنسية، وهو ما أجج الاحتجاجات والاضطرابات المدنية وأدى إلى إصابة الكثيرين ووفاتهم، وأدى أيضًا إلى زيادة فرنسا لقوتها العسكرية على الحدود.
وبعد وقت قصير من الاستفتاء، وتحديدًا في عام 1967، غُيّر اسم أرض الصومال الفرنسية إلى إقليم العفر والعيسى الفرنسي، اعترافًا بتفوق العفر وتقليلًا لأهمية التركيبة الصومالية، حيث تُعدّ العيسى عشيرة صومالية فرعية. ولم يقف الأمر حد تغيير اسم الإقليم فقط، بل تمّ تغيير الهيكل الحكومي وتغير منصب الحاكم العام إلى منصب المفوض السامي، وشُكّل مجلس حكومي مكون من تسعة أعضاء.
ومع تزايد عدد الصوماليين بشكلٍ مطرد، تضاءلت احتمالية ذهاب نتائج الاستفتاء الثالث لصالح فرنسا التي كان لزامًا عليها الحفاظ على أخر نقطة استيطانية لها في إفريقيا، ومع ذلك وفي 27 يونيو 1977، أيد 99.8% من المصوتين في الاستفتاء الثالث الانسحاب من الحكم الفرنسي، أي استقلال دولة جيبوتي رسميًا، وانتُخب حسن جوليد أبتيدون، السياسي الصومالي الذي قاد حملة التصويت بنعم في استفتاء 1958، أول رئيس للبلاد (1977 – 1999).
نبذة عن قبائل العفر
تعود جذور قبائل العفر إلى عفار بن مهرة بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير بن سبأ بن يشجب بن قحطان بن هود عليه السلام، أي أنها قبيلة قحطانية، بينما تنسب بعض الدراسات العفر إلى قبائل البجا الممتدة من جنوب مصر إلى شرق السودان، حيث يتحدثون نفس اللغة الكوشية، ويدين جميع أفرادها بالإسلام منذ القرن العاشر الميلادي.
وكان العفر –يُعرفون أيضًا بالدناكل أو الأدال أو العدعلي- يعيشون في عدة سلطنات امتدت أراضيها من شاطئ البحر الأحمر في الشرق إلى سفوح المنحدرات في الغرب ومنطقة ديرة داوا في الجنوب ومحيط مصوع في الشمال، وذلك في نهاية القرن التاسع عشر قبل أن تغزوهم إمبراطورية الحبشة إبان فترات استعمار إفريقيا وقبل أن تُقسّم أرض العفر بين إثيوبيا وإيطاليا (إريتريا) وفرنسا (جيبوتي) وتتفكك معها سلطنات العفر، باستثناء سلطنة أوسا في إثيوبيا التي ظلّت ذاتية الحكم حتى انتهاء الحكم الإمبراطوري بانقلاب عام 1974.
ويرى العفر أن سبب انهيار هيمنتهم وفقدانهم الاستقلالية والقيادة الوطنية وتدهور أحوالهم المعيشية يعود لإزاحتهم عن أرضهم في الشمال من قبل جيرانهم الصوماليين الذين يفوقونهم عددًا في إثيوبيا، وتحديدًا قبائل العيسى التي يرونها السبب الجذري فيما هم فيه بعد الاستعمار.
نمط حياة العفر وأماكن عيشهم
لا يزال العفر منعزلين ومنغلقين على أنفسهم ويحافظون على نمط حياتهم التقليدي في رعي الماشية وتربيتها ويعتمدون في أسلوب حياتهم على الترحال، ويُعدّ نهر عواش الواقع في شرق إثيوبيا موطنهم، حيث يذهبون بقطعانهم بعيدًا عن النهر خلال موسم الأمطار بحثًا عن المياه والكلأ ويعودون إليه خلال فترة الجفاف. ويُذكر أنهم يتنقلون على مدار العام ما بين جبل أسيبوت ومنتزه عواش الوطني وسفوح المرتفعات في الغرب حتى التلال المرتفعة في الجنوب الشرقي، وقد يصطدمون في أثناء ترحالهم بالمجموعات العرقية الأخرى.
ونزح العفر من جنوب الجزيرة العربية، تحديدًا من حضرموت في اليمن، إلى إفريقيا الشمالية، وهناك أقاويل تقول بإنهم من مملكة أوسان التي كانت مزدهرة في جنوب اليمن واستمرّ حكمها من عام 1000 ق.م حتى 540 ق.م، وأطلقوا اسم أوسا على عاصمتهم الجديدة في الحبشة نسبةً لعاصمتهم القديمة في جنوب الجزيرة.
نبذة عن قبائل العيسى
تُعدّ قبائل العيسى ثاني أكبر قبيلة صومالية في إثيوبيا بعد قبيلة أوجادين ومن أكبر القبائل العربية القاطنة في القرن الإفريقي، وهي قبيلة متطورة ولها صلات في جميع أنحاء المنطقة، بالإضافة إلى أنها تعمل في مجال التجارة والنقل والإنتاج الحيواني، ويُذكر أنها أصبحت المجموعة العرقية الحاكمة في جيبوتي بعد التقسيم الاستعماري حيث أصبح جزء كبير من أراضي العفر في الشمال تابعًا لإريتريا عند استقلالها في أوائل التسعينات، وهو الأمر الذي قطع اتصال العفر في إثيوبيا بميناء عصب في إفريقيا وألمهم بشكلٍ كبير.
ومن الجدير ذكره أن قبائل العيسى كانت تتمتع بنظام سياسي لا مثيل له في العالم الثالث ولديها نظام قضائي وقوانين تميزت بالعدل والمساواة وكفلت للجميع حقوقهم.
أماكن تواجد قبائل العيسى
تعود جذور قبيلة العيسى إلى بني حنيفة من بكر بن وائل بن جديلة بن ربيعة، وكان وجودهم الأصلي في أبي الكباش ثم انتقلوا إلى خرما والرياض، وكان جدهم الأكبر عبد الله بن عيسى قاضي الدرعية في زمن الإمام محمد بن سعود، ولعبوا دورًا بارزًا في إقامة الدولة السعودية الثانية. ويذكر بعض المؤرخين أن أصول قبيلة العيسى تعود إلى بني تميم وبني خالد وانقسموا ما بين السعودية والبحرين والكويت.
وفي الوقت الحالي، تنتشر قبيلة العيسى فيما يُعرف بالصومال الكبير وترتكز قوتها في بلحار مرورًا بزيلع ومدينة حريرد التجارية وصولًا إلى أقصى الشمال في جيبوتي، وهي من أعرق القبائل في إثيوبيا الممتدة من دونلة مرورًا بمدينة دردوا، العاصمة التجارية والصناعية لإثيوبيا، وصولًا إلى مدينة متاهرة القريبة من أديس أبابا.
الصراع بين العفر والعيسى
يُذكر أن العفر والعيسى في صراع دائم بسبب مطالبة قبائل العيسى بأراضي الرعي في سهل الليجيدي شرق نهر عواش وسيطرتها على منطقة شينيل في المنطقة الإقليمية الصومالية. وتُعدّ منطقة سيتي الحدودية بين العفر والمناطق الصومالية، ولا سيما مناطق العيسى، بؤرة اشتباكات، وازدادت تلك الاشتباكات عقب اتفاق عام 2014 الذي ينصّ على تسليم ثلاث مدن صغيرة -جيدمايتو وأوندوفو وأدييتو- خاضعة لسيطرة المنطقة الصومالية إلى العفر، إلّا أن مجلس وزراء الإقليم الصومالي قرر في اجتماعه غير العادي في مايو 2019 الانسحاب الأحادي من الاتفاق الحدودي واستعادة المدن الثلاث المتنازع عليها.
وبالرغم من أن الصراع بين العفر والعيسى كان يدور حول المياه والمراعي، أسهمت عوامل أخرى في العداء والتنافس بين القبيلتين، حيث تدخلت قوى خارجية لقلب التوازن بينهم وإعطاء إحدى القبيلتين أسبقية على الأخرى مما قلب الموازين ضد الأخيرة وزاد من الصدام التاريخي بينهم في إثيوبيا والصومال الكبير، ذلك الصدام المتشابك والمرتبط بعوامل تاريخية واقتصادية وثقافية. ومن الجدير ذكره أن الصراع بينهم تأجج ومرّ بعدة مراحل وعوامل، وهي:
1) تطور هذا الصراع في البداية على يد الفرنسيين عام 1919 مع بدء خطة سكة حديد جيبوتي-أديس أبابا، حيث بدأوا في توظيف العيسى في وظائف النقل والحراسة مما سهل إقامتهم في المناطق التي يعبرها خط السكة الحديد.
2) ازداد الصراع على يد الإيطاليين الذين جندوا بعد عقدين من الزمان الكثير من الصوماليين، ومن بينهم قبائل العيسى، لغزو إثيوبيا، ومن هنا استطاع أفراد العيسى الحصول على السلاح والتدريب، بالإضافة إلى سوق مربحة لحيواناتهم؛ أتاح هذا التحالف لقبائل العيسى التوسع على حساب العفر ويسر لهم الوصول إلى سهل الليجيدي لرعي قطعانهم.
3) في الستينيات، أُدخلت الزراعة التجارية في وادي عواش ومنحت الحكومة الإمبراطورية امتيازات على أراضي النهر للمستثمرين الأجانب والسكان المحليين الذين ينتجون القطن بالري، ولم يتمّ التشاور مع العفر أو تعويضهم، ولذلك، فقد العفر إمكانية الوصول إلى الكثير من أجزاء النهر ومراعيه، حيث كانوا يعتمدون عليه في موسم الجفاف.
4) في أوائل السبعينيات، دُرّب الكثيرون من أجل غزو إثيوبيا وفي أثناء حرب الأجاودين عام 1977، ضغطت قوات العيسى للتوغل أكثر في منطقة العفر.
5) أعادت الجبهة الديموقراطية الثورية الشعبية الإثيوبية هيكلة نظام الحكم وحولته إلى النظام الفيدرالي العرقي، وبذلك حصل العفر على دولتهم الإقليمية وكذلك العيسى، ولكن لم تُرسم الحدود بين الدولتين بسبب مطالبات كلا الدولتين حول سهل الليجيدي وامتدادات الطريق إلى جيبوتي.