من المألوف أن يكون لكل فرد رؤيته الخاصة حول ما يقوم به أو يتقنه، ولكن أن تحيل هذه الرؤية إلى واقع وأن تجعل منها قاعدة للإنطلاق نحو الرؤى الأخرى وفتح آفاق جديدة لها، فهذا هو غير المألوف! وهذا ما فعله جمال حمدان عبقري الجغرافيا الذي نذر لها حياته وجعلها تستعير من الفروع الطبيعية والاجتماعية الأخرى، فهو يرى "أنها علم بمادتها فن بمعالجتها وفلسفة بنظرتها"، ويرى أيضًا أن ”الجغرافيا تاريخ ساكن والتاريخ جغرافيا متحركة".
نبذة عن جمال حمدان
هو جمال محمود صالح حمدان ابن قرية تاي، محافظة القليوبية. وُلد عام 1928 وحفظ القرءان الكريم في صغره، وكان مولعًا باللغة العربية واقتناء الكتب، ولعل ذلك يعود إلى والده الأزهري الذي كان يعمل مدرسًا للغة العربية. وكان جمال حمدان متفوقًا ونابغًا في تعليمه منذ صغره فحصل على المركز السادس على مستوى الجمهورية في المرحلة الابتدائية مما أهّله للحصول على منحة تعليم مجانية.
وأنهى جمال حمدان المدرسة الثانوية وتخرج من المدرسة التوفيقية عام 1943 ثم التحق بكلية الآداب، قسم الجغرافيا، جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا)، وتخرج منها عام 1947، وأُرسل في بعثة إلى جامعة ريدنج البريطانية عام 1949 ليحصل منها على درجة الدكتوراة في فلسفة الجغرافيا عام 1953 وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره.
وبعد عودته من البعثة، عُيّن مدرسًا بقسم الجغرافيا، كلية الآداب، جامعة القاهرة، ثم رُقي أستاذًا مساعدًا. وخلال تلك السنوات ألّف كتبه الثلاثة: جغرافيا المدن والمظاهر الجغرافية لمجموعة مدينة الخرطوم "المدينة المثلثة" ودراسات عن العالم العربي، وهو ما أهّله للحصول على جائزة الدولة التشجيعية عام 1959.
وفي عام 1963، استقال جمال حمدان من الجامعة وغادر السلك الأكاديمي ليتفرغ لأبحاثه ومقالاته فقدم 79 بحثًا ومقالة و29 كتابًا أشهرها وأهمها كتاب "شخصية مصر" الذي أنجزه عام 1967 ونشره في أربعة مجلدت في الفترة ما بين 1981 – 1984. واستمرّ عطاؤه حتى وفاته في ظروف غامضة عام 1993 إثر حريق اندلع بشقته.
لمحات من حياة جمال حمدان
- تنحدر أصوله من قبيلة "بني حمدان" العربية التي نزحت إلى مصر في أثناء الفتح الإسلامي.
- ترك الجامعة والتدريس رفضًا للظلم وعدم مراعاة الكفاءة العلمية، ولم تُقبل استقالته لمدة عامين لكنه أبى الرجوع عنها فقُبلت وغادر السلك الأكاديمي مفضلًا التفرغ لأبحاثه والعزلة العلمية في منزله حتى آخر حياته.
- رفض كثير من الفرص المادية المغرية سواء من داخل مصر أو من خارجها وكان معتمدًا على عائد حسابه البنكي، وذلك تأثرًا بنكسة يونيو 1967. وذُكر أن محمد حسنين هيكل عرض عليه الكتابة في جريدة الأهرام مقابل مبلغ مغري لكنه رفض.
- كان معروفًا بالأنفة والكبرياء حتى أنه خاصم أحمد بهاء الدين عندما أثار قضية عدم صرف راتبه التقاعدي عن عمله بالجامعة لأسباب بيروقراطية.
- كان مولعًا بالخط والرسم وكتابة الشعر ومتذوقًا للموسيقى والغناء.
- حصل على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 1986 لكنه رفض تسلمها.
- حصل على وسام الجمهورية من الطبقة الأولى عن كتابه "شخصية مصر" عام 1988.
- حصل على جائزة التقدم العلمي من الكويت عام 1992؛ ويُذكر أنه وزع قيمة الجائزة البالغة 12500 دينار كويتي على معارفه.
- تنبأ بالتأثير السياسي والاستراتيجي للبترول في كتابه "بترول العرب" وتنبأ بسقوط الاتحاد السوفيتي في كتابه "استراتيجية الاستعمار والتحرير".
- رحل جمال حمدان في ظروف غامضة إثر حريق اندلع بشقته عام 1993، ومن الجدير ذكره هو اكتشاف اختفاء مسودات ثلاثة كتب كان بصدد الانتهاء من تأليفها، ومنها كتاب عن اليهودية والصهيونية وكتاب العالم الإسلامي المعاصر وكتاب عن علم الجغرافيا.
مؤلفات جمال حمدان
خلّف جمال حمدان إرثًا ثمينًا قوامه 29 كتابًا و79 بحثًا ومقالة، منها على سبيل المثال لا الحصر:
- كتاب شخصية مصر (صدر في البداية عام 1967 ونُشر كاملًا في أربعة مجلدات في الفترة ما بين 1981 – 1984)
- كتاب المدينة العربية (1964)
- كتاب الاستعمار والتحرير في العالم العربي (1964)
- كتاب بترول العرب (1964)
- كتاب اليهود أنثروبولوجيًا (1967)
- كتاب استراتيجية الاستعمار والتحرير (1968)
آراء جمال حمدان
كان لجمال حمدان بعض الأراء ووجهات النظر الخاصة التي سجّلها في مؤلفاته، ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
- أنه حذر من المبالغة والتعصب في تسويد القومية على الوطنية خوفًا من الازدواجية والتضاد بين القومية والوطنية.
- يرى في كتابه شخصية مصر أن "واحد من أخطر عيوب مصر هي أنها تسمح للرجل العادي المتوسط، بل للرجل الصغير بأكثر مما ينبغي، وتفسح له مكاناً أكبر مما يستحق... فشرط النجاح والبقاء في مصر أن تكون اتّباعيًّا لا ابتداعيًّا، تابعًا لا رائدًا، محافظًا لا ثوريًّا، تقليديًّا لا مخالفًا، ومواليًا لا معارضًا... وهكذا بينما تتكاثر الأقزام على رأسها ويقفزون على كتفها، تتعثر أقدامها في العمالقة وقد تطؤهم وطئًا".
- ويقول أيضًا في كتاب شخصية مصر "إن ما تحتاجه مصر أساسًا إنما هو ثورة نفسية، بمعني ثورة علي نفسها أولًا وعلى نفسيتها ثانيًا،أي تغيير جذري في العقلية والمثل وأيديولوجية الحياة قبل أي تغيير حقيقي في حياتها وكيانها ومصيرها... ثورة في الشخصية المصرية وعلي الشخصية المصرية... ذلك هو الشرط المسبق لتغيير شخصية مصر وكيان مصر ومستقبل مصر".
- يرى أن مصر ليست قلعة المصريين ولكن قلعة العرب، بمعنى أنها ليست منطوية على نفسها ولا انفصالية، ولكنها على العكس حضن الوحدة والعروبة.
- ويرى أن وحدة مصر الحقيقية تتبلور فى جغرافيتها أكثر منها فى تاريخها؛ تاريخها يمتاز بالانقطاع بينما الاستمرارية أبرز فى جغرافيتها.
- كان يرى أن مصر من غير الزراعة ستتحول "إلى مقبرة بحجم الدولة... لأن مصر بيئة جغرافية مرهفة وهشة لا تحتمل العبث ولا تصلح بطبيعتها للرأسمالية المسعورة الجامحة الجانحة؛ الرأسمالية الهوجاء مقتل مصر الطبيعية"، وذلك في معرض تحذيره من تراجع مساحة الزراعة.