على الرغم من أن المؤرخين لا يتفقون على تاريخ بداية الحرب الباردة، فمنهم من يقول إنها بدأت بعد الحرب العالمية الثانية والبعض الآخر يقول إنها بدأت بنهاية الحرب العالمية الأولى، تبقى الحرب الباردة في العموم صراع دخلت فيه الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفيتي الذي كان حليفًا لها في أثناء الحرب، والذي استمر عدة عقود، بهدف رغبة كل فريق من الفريقين في السيطرة والسيادة، وعرف هذا الصراع باسم الحرب الباردة، لأن الطرفين لم يتقاتلا فيه بصورة مباشرة ولم يرفعا الأسلحة في وجوه بعضهما البعض، لكن ظهر عداؤهما عن طريق المناورات السياسية والتجسس وتطوير الأسلحة وتكديسها والتحالفات العسكرية والمساعدات الاقتصادية للدول المعادية للطرف الآخر والحروب التي خاضها كل منهم بصورة غير مباشرة مع دول أخرى.
متى ظهر مصطلح الحرب الباردة؟
استُخدم مصطلح الحرب الباردة للمرة الأولى من قبل الملك الإسباني خوان إيمانويل في القرن الرابع عشر، ثم أعيد استخدامه من قبل عالم الاقتصاد الأمريكي برنارد باروش عام 1947م، ثم الصحفي ولتر ليمان، واستخدم الكاتب الإنجليزي جورج أورويل هذا المصطلح في مقاله "أنت والقنبلة الذرية" عام 1945م، والذي نشره في صحيفة تريبتون البريطانية، ثم كتب عام 1946م مقال قال فيه: "بعد مؤتمر موسكو في ديسمير الماضي بدأت روسيا حرب باردة على الإمبراطورية البريطانية"، وقال الصحفي هربرت بايارد في خطاب له: "دعونا لا نخدع اليوم في خضم الحرب الباردة".
أسباب الحرب الباردة
على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية قاتلت جنبًا إلى جنب مع الاتحاد السوفيتي ضد دول المحور في الحرب العالمية الثانية، كانت العلاقة بينهما متوترة، إذ إن الأمريكيين كانوا دائمًا قلقين من شيوعية الاتحاد السوفيتي والحكم الاستبدادي لزعيم الروس جوزيف ستالين، وفي المقابل كان السوفيت مستائين من رفض الأمريكان معاملتهم كجزء حقيقي من المجتمع الدولي، وكانوا مغتاظين من دخول الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية متأخرة، الأمر الذي أدى لمقتل عشرات الملايين من الروس، لذا نما بداخل الطرفين شعور بالعداء وعدم الثقة تجاه بعضهم البعض، وهذه العلاقة سميت باسم الحرب الباردة.
ويُستخدم هذا المصطلح ليصف حالة الصراع والتنافس والتوتر التي كانت تخيم على الطرفين منذ منتصف الأربعينيات حتى بداية التسعينيات من القرن الماضي، فنجد أن كل فريق من الفريقين كان يشعر بالندية تجاه الآخر، لذا سعى كل منهم للتسابق في مجال تطوير الأسلحة والتقدم الصناعي والتكنولوجي والتقدم الفضائي، مع تسابق في الإنفاق الضخم على تطوير الدفاع والأسلحة النووية والدخول في الحروب مع الجهات المعادية بصورة غير مباشرة، وانتشرت الحرب الباردة في السنوات التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية لتصل إلى كل مكان في العالم، حيث سعت الولايات المتحدة إلى حصار الشيوعية ومحاولة استئصالها، بينما دعم الاتحاد السوفيتي الحركة الشيوعية في جميع أنحاء العالم، لا سيما في أوروبا الشرقية وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية.
وقامت في أثناء الحرب الباردة عدة أزمات دولية مهمة، أبرزها: حصار برلين والحرب الكورية وأزمة برلين وحرب فيتنام وغزو أفغانستان وأزمة الصواريخ الكوبية، ولم تنتهي الحرب الباردة إلا بحلول أواخر الثمانينيات إلى أوائل التسعينيات، لا سيما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991م وبقاء أمريكا متربعة على عرش القوة.
أبرز أحداث الحرب الباردة
بدأت الحرب الباردة بعد استسلام ألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية في مايو 1945م تقريبًا، حيث وضع السوفيت بحلول عام 1948م حكومات شيوعية يسارية في دول أوروبا الشرقية وكانوا يهدفون لنشر الشيوعية في العالم كله، مما جعل الأمريكيين والبريطانيين يخافون من هيمنة السوفيت على المنطقة ومن احتمالية وصول الشيوعية للسلطة، ووصلت الحرب الباردة لذروتها بين عامي 1948م و1953م حينما حاول السوفيت السيطرة على برلين الغربية، فشكلت الولايات المتحدة مع حلفائها حلف الناتو "حلف شمال الأطلسي"، وحاولت مقاومة السوفيت الموجودين في أوروبا، فقام السوفييت بتفجير أول رأس حربي ذري لهم عام 1949م، وهذا ما جعلهم يقضون على احتكار أمريكا للقنبلة الذرية.
وفي نفس العام، وصل الشيوعيون في الصين وكوريا الشمالية للحكم وغزوا كوريا الجنوبية بمساعدة من الاتحاد السوفيتي، فقدمت الولايات المتحدة الدعم لكوريا الجنوبية عام 1950م، وهذا ما أدى إلى قيام الحرب الكورية التي استمرت حتى عام 1953م، ثم هدأت التوترات بين الطرفين قليلًا بين عامي 1953م و1957م بسبب وفاة ستالين، وبدأت مرحلة جديدة من الحرب الباردة بين عامي 1958م و1962م، حيث بدأ الطرفان في تطوير الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والتي ثبتها السوفيت في كوبا عام 1962م سرًا، لكي يمكنهم استخدامها لشن الحرب والهجمات النووية على أمريكا، وهذا ما سبب أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962م، التي كادت أن تدفع الدولتين للدخول في حرب قبل أن يتوصلا لاتفاق سحب الصواريخ، ووقّعت الدولتان على معاهدة حظر التجارب النووية عام 1963م، لكن ظل الطرفان في ندية مستمرة.
وعلى الرغم من هذا، لم يدخل الطرفان أبدًا في مواجهة عسكرية مباشرة، بل دخلا في معارك مع أطراف أخرى لمنعهم من الانضمام للجانب الآخر أو للإطاحة بهم، كما فعل الروس في ألمانيا الشرقية عام 1953م والمجر عام 1956م وتشيكوسلوفاكيا عام 1968م وأفغانستان عام 1979م حينما أرسلت قواتها للحفاظ على استمرار الحكم الشيوعي في هذه المناطق، وفي المقابل قامت الولايات المتحدة بدعم غزو كوبا الفاشل عام 1961م، وقامت بغزو جمهورية الدومينيكان عام 1956م وغرينادا عام 1983م، وحاولت منع فيتنام الشمالية الشيوعية من السيطرة على جنوب فيتنام بين عامي 1964م و1975م فيما يسمى بحرب فيتنام، لكنها لم تنجح في مسعاها.
ومع انهيار الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية بين عامي 1989م إلى 1990م، بدأت الحكومات الديمقراطية في الصعود للسلطة في كل من ألمانيا الشرقية وبولندا والمجر وتشيكوسلوفاكيا، وهذا ما أدى إلى توحيد ألمانيا الغربية والشرقية ودخولها لحلف الناتو، وبحلول أواخر 1991م انهار الاتحاد السوفيتي تمامًا وانقسم إلى 15 دولة مستقلة، على رأسهم روسيا، التي انتُخب فيها زعيم ديمقراطي كارهًا للشيوعية، وبتوليه انتهت الحرب الباردة.
نهاية الحرب الباردة
بعد أن تولى الرئيس ريتشارد نيسكون الحكم بدأ في اقتراح استخدام نهج الدبلوماسية بدلًا من الحروب العسكرية، وحاول تشجيع الأمم المتحدة على الاعتراف بالحكومة الصينية الشيوعية، وبدأ بإقامة علاقات دبلوماسية مع بكين بذهابه إلى هناك عام 1972م، ووقع مع رئيس وزراء السوفيت معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية التي حظرت تصنيع الصواريخ النووية على الطرفين، إلا أن هذه الجهود راحت هباءً بعد أن اشتعلت الحرب مرة أخرى في عهد الرئيس رونالد ريغان لأنه كان يرى أن الشيوعية في أي مكان تحد من حريته وتقيدها، لذا كان يقدم المساعدات المالية والعسكرية لكل الجهات المعادية للشيوعية ويدعم حركات التمرد ضدها في كل أنحاء العالم، لا سيما في غرينادا والسلفادور، وعرف هذا باسم "مبدأ ريغان".
لكن مع تضاءل نفوذ السوفيت في أوروبا الشرقية عام 1989م، استُبدلت حكومات ديمقراطية بالحكومات الشيوعية، وفي نفس العام دُمر أهم رمز للحرب الباردة وهو جدار برلين، وبحلول عام 1991م انهار الاتحاد السوفيتي تمامًا، وبانهياره انتهت الحرب الباردة.